في السنوات الأخيرة، ازداد اهتمام الأطباء النفسيين والأخصائيين بعالم الاضطرابات التي تبدأ في سن الطفولة، ومن بين هذه الاضطرابات اضطراب اكتناز الطفولة (Childhood Hoarding Disorder)، وهو اضطراب نفسي وسلوكي يثير اهتمام الباحثين لما يسببه من معاناة نفسية وسلوكية داخل الأسرة.
يظهر هذا الاضطراب في صورة ميل شديد لدى الطفل للاحتفاظ بالأشياء القديمة أو عديمة الفائدة، ورفض التخلص منها، ما يؤدي مع الوقت إلى تكدس الأغراض في غرفته أو بيئته المعيشية.
ورغم أن سلوك جمع الأشياء قد يكون طبيعيًا في مراحل عمرية مبكرة، إلا أن المشكلة تبدأ عندما يتحول هذا السلوك إلى حاجة قهرية مرتبطة بالقلق والخوف، مما يؤثر في حياة الطفل الاجتماعية والأكاديمية والعائلية.
تتناول هذه المقالة الجوانب العلمية والطبية لاضطراب اكتناز الطفولة، بدءًا من تعريفه وأعراضه، وصولًا إلى أسبابه وطرق علاجه والوقاية منه، بطريقة علمية مبسطة تساعد القارئ المهتم بالصحة النفسية على فهم هذا الاضطراب بعمق.
مفهوم اضطراب اكتناز الطفولة
اضطراب اكتناز الطفولة [1] هو حالة نفسية تتصف بصعوبة شديدة في التخلص من الممتلكات أو الأشياء، بغض النظر عن قيمتها الفعلية. يشعر الطفل برغبة قهرية في الاحتفاظ بكل شيء خوفًا من فقدانه أو الشعور بالفراغ عند التخلص منه.
يُعد هذا الاضطراب أحد أشكال اضطراب الاكتناز القهري الذي يُشاهد لدى البالغين، لكنه يبدأ في سن مبكرة، غالبًا قبل سن العاشرة. في العادة، يحتفظ الأطفال المصابون بهذا الاضطراب بأشياء غير ذات قيمة مثل الأغلفة الفارغة، أو الألعاب المكسورة، أو الأوراق، أو حتى القمامة أحيانًا. يرفضون التخلص منها بشدة ويشعرون بالضيق أو الغضب إذا حاول أحد الوالدين رميها.
يمتاز هذا الاضطراب بأنه لا يتعلق فقط بجمع الأشياء، بل يرتبط بعمليات نفسية داخلية مثل الخوف من الندم، وصعوبة اتخاذ القرار، والتعلق المفرط بالمقتنيات كوسيلة لتعويض نقص عاطفي أو شعور بعدم الأمان.
وقد أدرجت الجمعية الأمريكية للطب النفسي اضطراب الاكتناز ضمن الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية (DSM-5) باعتباره اضطرابًا مميزًا مستقلًا عن الوسواس القهري، لكنه قد يترافق معه.
أعراض اضطراب اكتناز الطفولة
تظهر أعراض اضطراب اكتناز الطفولة[2] بشكل تدريجي، وغالبًا ما يلاحظها الأهل في مرحلة متأخرة، بعد أن تصبح بيئة الطفل مزدحمة بالأغراض غير الضرورية. يُظهر الطفل تعلقًا غير طبيعي بأشيائه حتى لو كانت تالفة أو عديمة الفائدة. عند محاولة الوالدين التخلص من هذه الأشياء، قد يبدي الطفل غضبًا شديدًا أو نوبات بكاء أو قلقًا واضحًا.
من الناحية النفسية، يعاني الطفل من خوف داخلي من فقدان شيء ذي قيمة عاطفية، وقد يعتقد أن التخلص من أي غرض يعني فقدان جزء من ذاته أو ذكرياته. أما من الناحية السلوكية، فيميل الطفل إلى تجميع أشياء من المدرسة أو الشارع أو منازل الأقارب، ويجد صعوبة في التنظيم أو ترتيب أغراضه.
قد يواجه الطفل أيضًا صعوبة في التركيز والتحصيل الدراسي بسبب القلق المستمر أو الفوضى في بيئته المعيشية. ومع مرور الوقت، يمكن أن تؤدي الحالة إلى عزلة اجتماعية بسبب الخجل أو الخلافات مع الأهل. تتفاوت حدة الأعراض من طفل لآخر، لكنها في مجملها تتضمن حاجة قهرية للاحتفاظ، مقاومة للتخلص، اضطراب في التنظيم، وتعلق عاطفي بالأشياء.
أسباب اضطراب اكتناز الطفولة
تتعدد الأسباب والعوامل التي قد تسهم في نشوء اضطراب اكتناز الطفولة، وتشمل:
- عوامل وراثية: وجود تاريخ عائلي لاضطرابات القلق أو الوسواس القهري يزيد من احتمال ظهور الاكتناز لدى الأطفال.
- عوامل بيولوجية: اضطراب في مناطق الدماغ المسؤولة عن اتخاذ القرار، مثل القشرة الجبهية الأمامية، واضطراب في نظام الدوبامين والسيروتونين.
- عوامل نفسية:
- القلق الزائد والخوف من الندم على فقدان شيء ما.
- ضعف المهارات في اتخاذ القرار.
- الشعور بعدم السيطرة على البيئة المحيطة.
- الارتباط العاطفي بالأشياء كتعويض عن فقدان عاطفي أو صدمة.
- عوامل بيئية:
- النمو في بيئة منزلية مضطربة أو مهملة.
- تقليد أحد الوالدين إذا كان يعاني من الاكتناز.
- التعرض لتجربة فقدان مفاجئ، مثل وفاة أحد الأحباء أو الانتقال القسري من منزل لآخر.
- عوامل معرفية: اعتقادات خاطئة حول أهمية الأشياء أو الخوف من فقدان المعلومات أو الذكريات المرتبطة بها.
أنواع اضطراب اكتناز الطفولة
يمكن تصنيف اضطراب اكتناز الطفولة إلى عدة أنواع بحسب طبيعة السلوك والمحتوى المكتنز:
- الاكتناز العام: حيث يحتفظ الطفل بكل أنواع الأشياء دون تمييز، من الألعاب إلى القمامة.
- الاكتناز العاطفي: يحتفظ الطفل بأشياء لها قيمة عاطفية قوية، مثل الرسومات أو الهدايا القديمة، ويرفض التخلص منها مهما كانت حالتها.
- الاكتناز التعويضي: يظهر لدى الأطفال الذين عانوا من فقدان أو حرمان عاطفي، فيجمعون الأشياء لتعويض ذلك الشعور.
- الاكتناز الوسواسي: يرتبط غالبًا باضطراب الوسواس القهري، حيث يشعر الطفل بدافع داخلي قهري لجمع الأشياء دون سبب واضح.
طرق تشخيص اضطراب اكتناز الطفولة
يتم تشخيص اضطراب اكتناز الطفولة من قبل أخصائي نفسي أو طبيب نفسي للأطفال من خلال المقابلات السريرية والملاحظة السلوكية، بالإضافة إلى جمع معلومات مفصلة من الوالدين والمعلمين.
من المهم التمييز بين الاكتناز الطبيعي الذي يظهر في بعض مراحل الطفولة وبين الاضطراب الحقيقي. يتم التشخيص وفق معايير محددة تشمل:
- صعوبة مستمرة في التخلص من الممتلكات بغض النظر عن قيمتها.
- شعور قوي بالحاجة إلى الاحتفاظ بالأشياء مع ضيق شديد عند محاولة التخلص منها.
- تراكم الأغراض لدرجة تعيق استخدام المساحات في المنزل أو الغرفة.
- تسبب السلوك في ضائقة نفسية أو تدهور وظيفي في الحياة اليومية أو الدراسية.
- ألا يكون السلوك ناتجًا عن اضطرابات عقلية أخرى مثل التوحد أو الفصام.
يمكن أن يُستخدم في التقييم مقياس الاكتناز للأطفال (Children’s Saving Inventory) لقياس شدة الأعراض وتأثيرها على حياة الطفل. كما قد يُطلب فحص طبي لاستبعاد أي اضطراب عصبي أو حالة طبية تؤثر على السلوك.
طرق علاج اضطراب اكتناز الطفولة
يتطلب علاج اضطراب اكتناز الطفولة[3] نهجًا متعدد الجوانب يشمل الطفل وأسرته معًا، ومن أبرز الأساليب العلاجية ما يلي:
- العلاج المعرفي السلوكي (CBT): يعد الخيار الأول في العلاج، حيث يساعد الطفل على التعرف إلى أفكاره الخاطئة حول أهمية الأشياء وتغييرها تدريجيًا، كما يعلمه كيفية اتخاذ قرارات واقعية بشأن الاحتفاظ أو التخلص.
- العلاج الأسري: يهدف إلى توعية الوالدين بكيفية التعامل مع الطفل دون زيادة شعوره بالذنب أو القهر، وتشجيعهم على دعم خطوات العلاج بدلًا من المواجهة المباشرة.
- العلاج السلوكي بالتعرض ومنع الاستجابة: يتم فيه تعريض الطفل تدريجيًا لمواقف التخلص من الأغراض مع منعه من العودة لجمعها، لتقليل القلق المرتبط بالعملية.
- العلاج الدوائي: في الحالات الشديدة، قد يصف الطبيب أدوية مثل مثبطات استرداد السيروتونين الانتقائية (SSRIs) لتقليل الوساوس والقلق.
- التدريب على المهارات التنظيمية: يساعد الطفل على تطوير مهارات تصنيف وترتيب الأشياء واتخاذ قرارات أكثر منطقية بشأن ممتلكاته.
- العلاج الفني أو اللعب العلاجي: يستخدم كوسيلة للتعبير عن المشاعر المرتبطة بالأشياء المكتنزة بطريقة غير مباشرة.
طرق الوقاية من اضطراب اكتناز الطفولة
الوقاية من اضطراب اكتناز الطفولة تبدأ من الوعي الأسري المبكر. ينبغي للوالدين مراقبة سلوك الطفل تجاه ممتلكاته دون استخدام العقاب أو الإكراه، بل من خلال الحوار والتشجيع على التنظيم.
يمكن للمدارس أيضًا لعب دور وقائي من خلال تعليم الأطفال مهارات التنظيم والتفكير المنطقي في الاحتفاظ بالأشياء. كما يُنصح بتعزيز الأمان العاطفي لدى الطفل، لأن الحرمان العاطفي أو الصدمات المبكرة تعد من أهم العوامل المحفزة للاكتناز.
وأخيرًا، من المهم الحد من النماذج السلوكية السلبية في المنزل؛ فإذا كان أحد الأبوين يعاني من الاكتناز، فمن الضروري تلقي العلاج لتجنب انتقال النمط السلوكي إلى الأبناء.
في الختام
اضطراب اكتناز الطفولة ليس مجرد سلوك فوضوي أو عادة سيئة، بل هو اضطراب نفسي يحتاج إلى تفهم ورعاية خاصة. فور ملاحظة علامات الاحتفاظ المفرط بالأشياء، ينبغي استشارة مختص نفسي لتقييم الحالة مبكرًا قبل أن تتطور إلى نمط مزمن في مرحلة المراهقة أو البلوغ.
توضح الدراسات أن التدخل المبكر، خصوصًا بالعلاج المعرفي السلوكي، يحقق نتائج ممتازة في تقليل الأعراض وتحسين نوعية حياة الطفل. ويبقى التوازن بين الانضباط الأسري والدعم العاطفي هو حجر الأساس في الوقاية والعلاج، فالفهم والاحتواء هما أفضل طريق نحو التعافي.
إن نشر الوعي حول هذا الاضطراب يساهم في تقليل الوصمة المرتبطة به ويتيح للأطفال المصابين فرصة أكبر للنمو في بيئة صحية نفسية وآمنة.
لا يوجد تعليقات .