الإنسان كائن اجتماعي بطبيعته، وتُعدّ العاطفة جزءًا محوريًا في تواصله مع محيطه، سواء في العلاقات الأسرية، أو العاطفية، أو حتى المهنية. ولكن، في بعض الأحيان، قد يلاحظ الفرد أو المحيطون به انخفاضًا واضحًا في القدرة على التعبير العاطفي، أو التفاعل الوجداني، وهي حالة تُعرف بالـ”برود العاطفي”.
البرود العاطفي ليس مجرد حالة مزاجية عابرة أو طبع شخصي، بل قد يكون عرضًا لحالة نفسية أو عصبية أعمق، تستحق الفهم والدراسة والعلاج عند الحاجة. في هذا المقال، سنتناول البرود العاطفي من منظور علمي وطبي، بدءًا من تعريفه، مرورًا بالأعراض، والأسباب، والأنواع، وحتى طرق التشخيص والعلاج والوقاية.
مفهوم البرود العاطفي
البرود العاطفي[1] هو حالة تتمثل في انخفاض أو غياب الاستجابة الوجدانية تجاه المحفزات العاطفية، سواء كانت إيجابية أو سلبية. ويشمل ذلك التفاعل العاطفي مع الآخرين، القدرة على التعبير عن المشاعر، أو حتى الإحساس بالمشاعر نفسها.
قد يعاني الشخص المصاب بالبرود العاطفي من صعوبة في الشعور بالتعاطف، أو الحماس، أو الحب، أو الحزن، مما ينعكس سلبًا على علاقاته الاجتماعية ونوعية حياته.
هذه الحالة قد تكون مرتبطة بعدد من الاضطرابات النفسية والعصبية، مثل الاكتئاب، واضطرابات الشخصية، والفصام، كما قد تظهر نتيجة ضغوط الحياة المزمنة أو الصدمات النفسية. من المهم التفرقة بين البرود العاطفي كعرض مؤقت أو دائم، وكجزء من التركيبة الشخصية أو كإشارة على وجود اضطراب نفسي يحتاج إلى تدخل علاجي.
أعراض البرود العاطفي
يبدو الشخص وكأنه “منفصل” عاطفيًا عن محيطه. لا يُبدي تفاعلًا مع الأحداث السعيدة أو الحزينة، ولا يظهر عليه التأثر بالمواقف التي تستدعي عادة استجابة وجدانية. لا يبادر بالعناق، أو الابتسام، أو إظهار التعاطف مع الآخرين. في العلاقات الزوجية أو العاطفية، قد يشكو الطرف الآخر من غياب التواصل الوجداني، أو الإهمال العاطفي، رغم توفر الشكل الظاهري للعلاقة.
قد يظهر البرود العاطفي أيضًا في صورة ضعف الحافز، أو عدم الاكتراث بالأنشطة التي كانت تُثير الحماس سابقًا، أو صعوبة في بناء روابط إنسانية عميقة. قد يصاحبه صمت طويل، أو استخدام لغة جسد غير تفاعلية، أو حتى الردود الروتينية الخالية من الانفعال. في بعض الحالات، قد لا يكون الشخص واعيًا تمامًا بمشكلته، وإنما يلاحظها من حوله، مما يزيد من صعوبة التشخيص والتعامل معها.
أسباب البرود العاطفي
فيما يلي أهم أسباب البرود العاطفي[2]:
- الاضطرابات النفسية: مثل الاكتئاب، واضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، واضطرابات القلق، والتي تؤثر بشكل مباشر على التفاعل العاطفي.
- الاضطرابات العصبية: مثل التصلب المتعدد، أو مرض باركنسون، أو إصابات الدماغ، خصوصًا في الفص الجبهي المسؤول عن التنظيم العاطفي.
- الفصام والاضطرابات الذهانية: حيث يعد البرود العاطفي أحد الأعراض السلبية الشائعة في هذه الحالات.
- التعرض للصدمات النفسية: مثل فقدان شخص عزيز، أو التعرض لسوء المعاملة أو الإهمال العاطفي في الطفولة.
- الاستخدام المزمن لبعض الأدوية: كالمهدئات، أو مضادات الذهان، أو مضادات الاكتئاب، والتي قد تؤثر على الاستجابة العاطفية.
- الضغوط الحياتية المزمنة: حيث تؤدي إلى “تبلّد” وجداني كآلية دفاع نفسية.
- العوامل الوراثية والبيولوجية: بعض الأشخاص قد يكون لديهم استعداد وراثي لانخفاض الاستجابة العاطفية.
- البرمجة الأسرية: النشأة في بيئة لا تُعبّر عن المشاعر قد تؤدي إلى تطوير نمط من البرود العاطفي المكتسب.
أنواع البرود العاطفي
- البرود العاطفي الظرفي: يظهر في مواقف محددة أو خلال فترة معينة، مثل بعد صدمة نفسية أو فقد.
- البرود العاطفي المزمن: يستمر لفترة طويلة، وقد يكون مرتبطًا باضطراب نفسي أو عصبي مستمر.
- البرود العاطفي المكتسب: نتيجة تجربة حياتية أو صدمة، ويكون غير موجود سابقًا.
- البرود العاطفي الفطري (الشخصي): جزء من تركيب الشخصية، يظهر منذ مراحل مبكرة من العمر.
- البرود العاطفي الناتج عن الأدوية: يحدث نتيجة استخدام بعض العقاقير، ويزول غالبًا بعد تعديل العلاج.
- البرود العاطفي الاجتماعي: يظهر في العلاقات الاجتماعية فقط، بينما يحتفظ الشخص بمشاعره في علاقاته الخاصة.
مقال ذي صلة: الاستقرار العاطفي وخطوات تحقيقه
طرق تشخيص البرود العاطفي
تشخيص البرود العاطفي يتطلب تقييمًا دقيقًا من قِبل مختص نفسي أو طبيب نفسي، نظرًا لتداخل أعراضه مع أعراض أخرى لاضطرابات نفسية وعصبية متعددة. تبدأ عملية التشخيص عادة بأخذ تاريخ سريري ونفسي مفصّل، يشمل الأعراض، بدايتها، ومدى تأثيرها على حياة الفرد.
يقوم الطبيب النفسي بتقييم مدى قدرة الشخص على الشعور والتعبير عن المشاعر، وتحليل علاقاته الاجتماعية، وسلوكياته التفاعلية. في بعض الحالات، يتم استخدام أدوات تقييم نفسي مقنّنة، مثل المقاييس النفسية الخاصة بالمشاعر والتعاطف والوظائف الاجتماعية.
قد يُحال المريض أيضًا إلى طبيب أعصاب إذا كان هناك شك في وجود سبب عضوي أو عصبي خلف الأعراض، خاصة إذا كانت مصاحبة لأعراض عصبية أخرى. كما يجب التأكد من عدم وجود تأثير دوائي يسبب تثبيطًا في الجهاز العصبي المركزي.
طرق علاج البرود العاطفي
هذه أهم طرق علاج البرود العاطفي [3]:
- العلاج النفسي (العلاج المعرفي السلوكي): يساعد الشخص على فهم مشاعره، وتعلم مهارات التعبير العاطفي، وإعادة هيكلة الأفكار السلبية المرتبطة بالمشاعر.
- العلاج الدوائي: في حال وجود اضطراب نفسي كالاكتئاب أو الفصام، قد تُستخدم مضادات الاكتئاب أو مضادات الذهان بحسب التشخيص.
- العلاج الأسري أو الزوجي: لتعليم الطرف الآخر كيفية دعم الشخص وتفهّم حالته، وتحسين التواصل العاطفي داخل الأسرة.
- العلاج بالتعبير العاطفي: مثل الكتابة التعبيرية، أو الرسم، أو العلاج بالفن، لمساعدة الشخص على استكشاف مشاعره بطرق غير مباشرة.
- العلاج الجماعي: يوفر بيئة داعمة وآمنة لمشاركة المشاعر وتعلّم التفاعل مع الآخرين.
- تقنيات الاسترخاء والتأمل: مثل اليوغا أو التأمل الذهني (Mindfulness) لتحسين الوعي بالمشاعر وتقليل التوتر.
- إعادة تقييم الأدوية: في حال كان السبب ناتجًا عن عقار معين، يجب مراجعة الجرعة أو تغيير الدواء تحت إشراف طبي.
- التأهيل العصبي: في حالات البرود العاطفي الناتجة عن إصابات دماغية، قد يحتاج المريض إلى برنامج تأهيلي متخصص.
طرق الوقاية من البرود العاطفي
الوقاية من البرود العاطفي تبدأ بالوعي العاطفي وتعزيز مهارات التواصل الوجداني منذ الطفولة. من المهم أن ينشأ الأطفال في بيئة توفر الأمان العاطفي، وتشجع التعبير عن المشاعر دون خوف أو حكم. كما أن إدارة الضغوط النفسية بشكل صحي، والتعامل الفعّال مع الصدمات، يقللان من احتمال تطور البرود العاطفي.
الممارسات اليومية مثل التعبير عن الامتنان، والمشاركة في علاقات صحية، وتعلّم تقنيات التنفّس العميق أو التأمل، تعزز من الصحة النفسية العامة. كذلك، من الضروري مراجعة المختصين عند الشعور بتغيّرات واضحة في الاستجابة العاطفية، خاصة إذا أثّرت على جودة الحياة والعلاقات. الفحص النفسي المبكر قد يساهم في الوقاية أو التدخل المبكر قبل تفاقم الحالة.
في الختام
البرود العاطفي ليس حكمًا نهائيًا على شخصية الفرد أو علاقاته، بل هو حالة قابلة للفهم والتشخيص والعلاج. إدراك وجود هذه الحالة هو الخطوة الأولى نحو التغيير. ومن خلال الدعم المناسب، سواء النفسي أو الطبي أو الاجتماعي، يمكن استعادة الحياة العاطفية الطبيعية والتمتع بعلاقات أكثر دفئًا وارتباطًا.
إن إدماج الفهم العلمي مع التعاطف الإنساني هو مفتاح التعامل مع البرود العاطفي. وإذا كان هذا المقال قد ساعدك على التعرّف أكثر على الحالة، فقد حقق هدفه في المساهمة بنشر المعرفة والوعي النفسي.
لا يوجد تعليقات .