الواقع هو ذلك الإطار المشترك الذي نعيش فيه جميعًا، نتفاعل من خلاله مع العالم ونبني عليه قراراتنا وأفكارنا. ولكن ماذا لو اختلف هذا الواقع في عقل أحدهم؟ ماذا لو اعتقد الإنسان اعتقادات قوية لا يمكن زعزعتها، رغم أنها تخالف المنطق والحقائق المحيطة به؟ هنا نتحدث عن الاضطراب الوهمي، أحد أكثر الاضطرابات النفسية تعقيدًا وغموضًا، والذي يتميز بوجود أوهام راسخة وغير واقعية لا تقبل التصحيح.
يُعد الاضطراب الوهمي من الاضطرابات الذهانية، ويُصنف في أدلة الطب النفسي مثل الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية (DSM-5). ورغم أنه أقل شيوعًا من الفصام أو الاضطراب ثنائي القطب، إلا أن المصابين به قد يبدون طبيعيين في سلوكياتهم العامة ما عدا ما يتعلق بأوهامهم، مما يصعّب التشخيص ويؤخر التدخل العلاجي.
في هذا المقال، نهدف إلى تقديم شرح علمي مبسط لهذا الاضطراب، يساعد الباحث والمتعلم على فهم المفهوم، الأعراض، الأسباب، الأنواع، وطرق التشخيص والعلاج والوقاية، لتقديم صورة شاملة تساعد في بناء الوعي والتعامل الفعال مع هذه الحالة.
مفهوم الاضطراب الوهمي
الاضطراب الوهمي[1] هو اضطراب نفسي مزمن يُصنف ضمن فئة الاضطرابات الذهانية، ويتميز بوجود أوهام ثابتة، غير منطقية، لكنها غير غريبة أو خارقة للطبيعة، تستمر لمدة شهر على الأقل، دون أن يصاحبها خلل كبير في الوظائف المعرفية أو في السلوك العام خارج موضوع الوهم.
الأوهام هي معتقدات خاطئة لا يمكن تصحيحها بالحقائق أو المنطق، رغم توفر الأدلة المضادة. وعلى عكس الفصام، لا تظهر على المصاب أعراض مثل الهلوسة الواضحة أو الانسحاب الاجتماعي الشديد أو اضطرابات التفكير، بل قد يبدو طبيعيًا تمامًا خارج نطاق الوهم.
مثال على ذلك: شخص يعتقد أن أحد الجيران يراقبه باستمرار ويتآمر عليه، رغم عدم وجود أي دليل يدعم هذا الاعتقاد. ومع ذلك، يتصرف بشكل طبيعي في عمله وعلاقاته الأخرى.
أعراض الاضطراب الوهمي
تتراوح أعراض الاضطراب الوهمي [2] بين الأوهام الثابتة وبعض التغيرات السلوكية المرتبطة بها. الأوهام هي السمة الأساسية، وتكون محددة ومستمرة، عادةً دون وجود علامات ذهانية أخرى شائعة في اضطرابات مثل الفصام.
غالبًا ما يكون المصاب قادرًا على الأداء اليومي بشكل طبيعي، لكنه يتصرف بشكل غير طبيعي عندما يتعلق الأمر بموضوع الوهم. على سبيل المثال، قد يراقب الآخرين بشكل مفرط، يتجنب أماكن معينة، يرسل شكاوى متكررة للسلطات، أو يدخل في خلافات قانونية بسبب معتقداته الخاطئة.
من بين الأعراض الشائعة: التهيّؤ بأن هناك من يراقبه أو يلاحقه، الغيرة المرضية، اعتقاد زائف بالعظمة أو الشهرة، أو الإيمان بوجود علاقة حب من طرف شخص لم يبدِ أي اهتمام. قد يؤدي هذا إلى اضطرابات في العلاقات الاجتماعية، القلق، الانفعال، وأحيانًا سلوك عدواني أو دفاعي. في بعض الحالات، قد تترافق الأوهام مع اكتئاب أو قلق مزمن، مما يزيد من تعقيد الحالة.
أسباب الاضطراب الوهمي
رغم أن السبب الدقيق للاضطراب الوهمي لا يزال غير واضح تمامًا، إلا أن الأبحاث تشير إلى وجود عوامل متعددة تساهم في تطوره، ومنها:
- العوامل الوراثية: وجود تاريخ عائلي لاضطرابات ذهانية أو نفسية يزيد من خطر الإصابة.
- الخلل الكيميائي في الدماغ: خصوصًا في النواقل العصبية مثل الدوبامين والسيروتونين.
- الضغوط النفسية الشديدة: مثل الصدمات العاطفية، فقدان الأحبة، أو التعرض للخذلان.
- العزلة الاجتماعية: خاصةً لدى كبار السن أو الأشخاص الذين يعيشون وحدهم.
- الإصابة بأمراض عصبية أو جسدية مزمنة: مثل الزهايمر، أو مشاكل السمع، أو ضعف البصر.
- تعاطي المخدرات أو الكحول: مما قد يُحدث تغيرات في الإدراك والواقع.
- شخصية المصاب: وجود سمات معينة مثل الشك، الحساسية، أو النرجسية قد تساهم في تطور الأوهام.
أنواع الاضطراب الوهمي
يصنف الاضطراب الوهمي إلى عدة أنواع بحسب محتوى الوهم، وهي:
- النوع الاضطهادي (Persecutory Type):
- يعتقد المصاب أن الآخرين يتآمرون عليه، يراقبونه، أو يسعون لإيذائه.
- النوع العِشقي (Erotomanic Type):
- يعتقد الشخص أن شخصًا آخر (غالبًا مشهور أو ذو مكانة عالية) واقع في حبه.
- النوع العِظَمي (Grandiose Type):
- يحمل الشخص معتقدات مبالغ فيها عن قدراته، أهميته، أو اختراعاته.
- النوع الغيور (Jealous Type):
- يعتقد المصاب أن شريكه العاطفي غير مخلص، رغم عدم وجود دليل.
- النوع الجسدي (Somatic Type):
- يعتقد الشخص أنه يعاني من مرض جسدي خطير، رغم عدم وجود أي دليل طبي.
- النوع المختلط (Mixed Type):
- تظهر لدى الشخص عدة أنواع من الأوهام دون سيطرة نوع واحد.
- النوع غير المحدد (Unspecified Type):
- يشمل أوهامًا لا تندرج ضمن الأنواع السابقة بوضوح.
مقال ذو صلة: اضطراب التوهم المرضي: أعراضها، أسبابها وطرق علاجها – نفسي فيرتول
طرق تشخيص الاضطراب الوهمي
تشخيص الاضطراب الوهمي يتطلب تقييمًا نفسيًا دقيقًا من قبل طبيب نفسي أو أخصائي في الصحة النفسية. يبدأ التشخيص بجمع التاريخ الطبي والنفسي الكامل، وتحليل محتوى الأوهام ومدى ارتباطها بالواقع. من الضروري التحقق من أن هذه الأوهام ليست ناتجة عن حالة طبية (مثل اضطرابات الدماغ) أو تأثير مواد كيميائية (مثل المخدرات أو الأدوية).
وفقًا لمعايير الدليل التشخيصي والإحصائي DSM-5، يشترط أن تستمر الأوهام لمدة شهر على الأقل، دون ظهور أعراض واضحة للفصام مثل الهلوسة أو اضطراب التفكير. يجب أيضًا التأكد من أن الوظائف الاجتماعية أو المهنية للمصاب لم تتأثر بشكل كبير، إلا إذا كان ذلك متعلقًا مباشرة بمحتوى الوهم.
غالبًا ما تُستخدم أدوات مثل المقابلات السريرية المنظمة، اختبارات الحالة العقلية، وقد يتطلب الأمر إجراء فحوصات جسدية أو تصوير دماغي لاستبعاد الحالات العضوية. من المهم أيضًا التفرقة بين الاضطراب الوهمي وبين اضطرابات مثل الفصام، الاضطراب الوهامي العابر، أو الاكتئاب الذهاني.
طرق علاج الاضطراب الوهمي
علاج الاضطراب الوهمي [3] قد يكون معقدًا، نظرًا لرفض المريض أحيانًا الاعتراف بوجود مشكلة. إلا أن خيارات العلاج تشمل:
- العلاج الدوائي:
- مضادات الذهان (مثل Risperidone، Olanzapine) هي الخط الأول للعلاج.
- أحيانًا تُستخدم مضادات الاكتئاب أو القلق كمساعدات.
- العلاج النفسي:
- العلاج السلوكي المعرفي (CBT) يساعد في تفكيك الأفكار المشوهة وتعزيز التفكير الواقعي.
- دعم المريض دون تصادم مباشر مع الأوهام يكون أكثر فاعلية.
- العلاج الأسري:
- تعليم أفراد الأسرة كيفية التعامل مع المصاب، وتقليل التوتر في بيئة المنزل.
- العلاج الجماعي:
- نادرًا ما يُستخدم بسبب طبيعة الأوهام، لكنه مفيد في مراحل لاحقة لتعزيز الاندماج الاجتماعي.
- المتابعة المستمرة:
- يشمل تقييم تطور الأعراض، مراقبة فعالية الدواء، وضبط الجرعات.
- التدخل في الأزمات:
- في حال ظهور سلوكيات خطيرة أو ميل للعنف، قد يتطلب الأمر تدخلًا عاجلًا وإدخالًا مؤقتًا للمستشفى.
طرق الوقاية من الاضطراب الوهمي
لا توجد وسيلة مؤكدة للوقاية من الاضطراب الوهمي بشكل كامل، نظرًا لتعدد أسبابه، ولكن يمكن تقليل احتمالية الإصابة أو منع تدهور الحالة من خلال خطوات وقائية مهمة. من أبرزها: بناء بيئة داعمة نفسيًا، تشجيع الحوار المفتوح داخل الأسرة، وتقديم الدعم لمن يعاني من ضغوط حياتية شديدة أو عزلة اجتماعية. أيضًا، الاكتشاف المبكر للسلوكيات الغريبة أو أنماط التفكير غير المنطقية قد يساعد على التدخل في الوقت المناسب.
الرعاية النفسية المستمرة للأشخاص الذين يعانون من أمراض نفسية أو تاريخ عائلي للذهان مهمة جدًا. كما أن التوعية المجتمعية وتخفيف الوصمة المرتبطة بالصحة النفسية تُعد عناصر وقاية غير مباشرة لكنها فعالة.
في الختام
الاضطراب الوهمي هو اضطراب نفسي معقد لكنه قابل للعلاج إذا ما تم تشخيصه مبكرًا والتعامل معه بوعي وتعاطف. تكمن صعوبته في طبيعة الأوهام الثابتة ورفض المريض الاعتراف بها، مما يستدعي أساليب علاجية دقيقة، تقوم على بناء الثقة وتقديم الدعم بدلاً من المواجهة المباشرة.
بالنسبة للباحث أو المهتم في مجال علم النفس، فإن فهم هذا الاضطراب يُشكل خطوة مهمة نحو الغوص في عمق النفس البشرية وطرق تفكيرها. أما بالنسبة للعائلات أو الأصدقاء، فإن دورهم لا يقل أهمية عن دور الطبيب في دعم رحلة العلاج.
لا يوجد تعليقات .