تُعتبر الذاكرة من أعظم معجزات العقل البشري، إذ تُمكّننا من الاحتفاظ بتجاربنا وأحداث حياتنا اليومية وتشكيل هويتنا. لكن ماذا يحدث عندما يتوقف العقل فجأة عن تذكر معلومات مهمة أو ذكريات شخصية خاصة دون سبب عضوي واضح؟ يحدث هذا في حالة يُطلق عليها اسم فقدان الذاكرة التفارقي (Dissociative Amnesia)، وهو اضطراب نفسي يؤثر على قدرة الشخص على استدعاء الذكريات بشكل مؤقت أو دائم، نتيجة تعرضه لصدمات نفسية أو ضغوط نفسية شديدة.
هذا الاضطراب يختلف عن فقدان الذاكرة الناتج عن إصابات الدماغ أو أمراض الأعصاب، إذ إن فقدان الذاكرة التفارقي هو حالة نفسية بحتة، تحدث آلياتها داخل العقل لإبعاد الذكريات المؤلمة أو المحرجة عن الوعي الواعي كوسيلة حماية نفسية.
في هذا المقال سنغوص في تفاصيل هذا الاضطراب النفسي، نُعرّف به، نشرح أسبابه وأنواعه، نوضح أعراضه، كيف يتم تشخيصه، ونتناول الطرق الفعالة لعلاجه ودعم المتأثرين به.
ما هو فقدان الذاكرة التفارقي؟
فقدان الذاكرة التفارقي [1] هو اضطراب نفسي تصيب فيه الذاكرة الذاتية (الذاكرة الشخصية المتعلقة بالأحداث والتجارب الذاتية) بفقدان تام أو جزئي، مع عدم وجود سبب عضوي مثل إصابة دماغية أو مرض عصبي واضح.
يحدث ذلك عندما يقوم العقل بطرد الذكريات الصادمة أو المؤلمة من الوعي الواعي لحماية الشخص نفسيًا من الشعور بالألم النفسي العميق. وهذا يعبر عن آلية دفاع نفسي تسمى “التفكك” أو “Dissociation”.
الفرق بين فقدان الذاكرة التفارقي وأنواع فقدان الذاكرة الأخرى
- فقدان الذاكرة العضوي: ناتج عن أضرار في الدماغ مثل إصابات الرأس، السكتات الدماغية، أو أمراض الأعصاب.
- فقدان الذاكرة النفسي (التفارقي): ناتج عن الصدمات النفسية دون تلف في الدماغ.
آلية حدوث فقدان الذاكرة التفارقي
العقل البشري يمتلك قدرة مدهشة على حماية نفسه من الصدمات والذكريات المؤلمة عبر فصلها عن الوعي أو نسيانها، ما يُسمى التفكك النفسي.
في حالات الضغط النفسي الشديد أو الصدمات مثل الاعتداء، الكوارث، أو الحوادث، يمكن أن يحدث هذا التفكك بصورة مبالغ فيها فتتوقف قدرة الشخص على استدعاء هذه الذكريات، مما يؤدي لفقدان الذاكرة التفارقي.
أنواع فقدان الذاكرة التفارقي
ينقسم فقدان الذاكرة التفارقي إلى عدة أنواع رئيسية بحسب طبيعة فقدان الذاكرة ومدى انتشاره:
النسيان الموضعي (Localized Amnesia)
أكثر أنواع فقدان الذاكرة التفارقي شيوعًا، حيث يفقد الشخص ذاكرته لفترة زمنية محددة، عادة تغطي فترة الحادثة أو الصدمة النفسية. مثلاً، نسيان أحداث تعرض فيها الشخص لحادث أو اعتداء معين.
النسيان الانتقائي (Selective Amnesia)
الشخص لا ينسى الحدث كاملاً، لكنه ينسى بعض التفاصيل أو الجوانب المتعلقة بالحادثة فقط، بينما تبقى بعض الذكريات محفوظة.
النسيان العام (Generalized Amnesia)
وهي حالة نادرة، حيث ينسى الشخص كافة الذكريات الشخصية الخاصة به، بما في ذلك هويته. يشبه ذلك فقدان الذاكرة الكلي ويصاحبه عادة اضطرابات في الإدراك الذاتي.
النسيان المستمر (Continuous Amnesia)
يستمر فقدان الذاكرة لفترة زمنية طويلة تمتد من وقوع الحدث وحتى الوقت الحاضر.
النسيان المنظم (Systematized Amnesia)
ينسى الشخص ذاكرة خاصة بمجال محدد في حياته، مثل نسيان جميع الذكريات المتعلقة بشخص معين أو حدث واحد محدد.
مقال ذي صلة: علاقة فقدان الذاكرة التفارقي بالحالة النفسية
أعراض فقدان الذاكرة التفارقي
تتنوع أعراض اضطراب فقدان الذاكرة [2]، وتختلف في شدّتها من حالة إلى أخرى، إلا أنها تشترك في تأثيرها المباشر على حياة الفرد اليومية. من أبرز هذه الأعراض فقدان الذاكرة الشخصية، حيث يعجز المصاب عن تذكّر معلومات أساسية تتعلق به مثل اسمه، مكان إقامته، أفراد أسرته، أو أحداث هامة من ماضيه. هذا الفقدان يؤدي غالبًا إلى شعور بالارتباك والقلق، إذ يعيش الشخص حالة من الحيرة وربما الخوف نتيجة عدم قدرته على استرجاع تلك المعلومات.
وقد يتطور الأمر إلى اضطراب في الهوية، لا سيما في الحالات التي يكون فيها النسيان عامًا، فيصبح لدى الفرد شك في من يكون فعلًا. كما قد يطرأ تغير ملحوظ في السلوك، فيميل المصاب إلى الانعزال، أو يظهر عليه علامات الاكتئاب، ويتراجع عن المشاركة في الأنشطة الاجتماعية المعتادة. وفي بعض الحالات النادرة، قد يعاني الشخص من فقدان جزئي للوعي أو يشعر بانفصال عن نفسه أو عن البيئة المحيطة به، ما يُعرف بفقدان الاتصال بالواقع أو “التغريب عن الذات”.
أسباب فقدان الذاكرة التفارقي
تتعدد الأسباب النفسية التي تؤدي إلى فقدان الذاكرة التفارقي[3]، وهي غالبًا ما تكون مرتبطة بأحداث مؤلمة أو ضغوط نفسية شديدة.
الصدمات النفسية الحادة
- حوادث السير الخطيرة
- الاعتداء الجسدي أو الجنسي
- الكوارث الطبيعية (كالزلازل، الفيضانات)
- التعرض للعنف أو الحروب
الضغوط النفسية الشديدة
- فقدان شخص عزيز بشكل مفاجئ
- الانفصال أو الطلاق
- الخسائر المالية الكبيرة
أسباب أخرى محتملة
- الصدمات المتكررة في الطفولة (مثل الإهمال أو سوء المعاملة)
- اضطرابات نفسية مرافقة مثل اضطراب ما بعد الصدمة PTSD
- بعض الأمراض النفسية مثل الاكتئاب الشديد أو الفصام
كيف يتم تشخيص فقدان الذاكرة التفارقي؟
يُعد التشخيص الدقيق لاضطراب فقدان الذاكرة النفسي أمرًا ضروريًا لضمان استبعاد أي أسباب عضوية أو طبية قد تكون مسؤولة عن الأعراض، ولتحديد العلاج الأنسب بناءً على طبيعة الحالة. تبدأ عملية التشخيص عادةً بإجراء فحوصات طبية شاملة، تتضمن تصوير الدماغ باستخدام الرنين المغناطيسي (MRI) أو الأشعة المقطعية (CT)، وذلك بهدف التأكد من عدم وجود تلف في الدماغ أو أورام أو إصابات جسدية قد تؤثر في الذاكرة. كما تُجرى فحوصات دم للكشف عن وجود أمراض مزمنة أو حالات نقص في الفيتامينات، مثل نقص فيتامين B12، والتي يمكن أن تسبّب ضعفًا في الوظائف المعرفية.
بعد التأكد من سلامة الجانب العضوي، ينتقل التقييم إلى الجانب النفسي، حيث يقوم الطبيب أو الأخصائي النفسي بإجراء مقابلة سريرية معمقة لفهم طبيعة فقدان الذاكرة، مدى تأثيره على حياة المريض، وسياقه الزمني. تُستخدم أدوات تقييم نفسية خاصة لقياس كفاءة الذاكرة وتشخيص الاضطرابات النفسية المصاحبة، ويتم أيضًا دراسة التاريخ النفسي للمريض، خصوصًا ما إذا كان قد تعرض لصدمات نفسية أو ضغوط شديدة قد تكون قد ساهمت في ظهور الأعراض.
ويُستكمل التشخيص بالرجوع إلى المعايير المحددة في الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية (DSM-5)، والذي يشترط أن يكون فقدان الذاكرة غير مفسّر بأسباب طبية، وأن يكون له تأثير واضح على أداء الفرد في حياته اليومية، كما يجب أن يكون مرتبطًا بحدث نفسي شديد أو صدمة نفسية. يجمع هذا النهج التشخيصي بين الطب النفسي والعضوي لضمان التقييم المتكامل والدقيق للحالة، وتقديم التدخل المناسب بناءً على السبب الجذري لفقدان الذاكرة.
علاج فقدان الذاكرة التفارقي
العلاج يركز بشكل أساسي على دعم المريض نفسيًا ومساعدته على استعادة ذاكرته تدريجيًا.
العلاج النفسي
- العلاج النفسي الديناميكي: يهدف لفهم جذور الصدمات النفسية والتعامل معها عبر الحوار العلاجي.
- العلاج السلوكي المعرفي (CBT): يساعد في تعديل الأفكار السلبية المرتبطة بالذكريات المفقودة والتوتر المصاحب.
- العلاج بالتعرض: تعريض المريض بشكل تدريجي وآمن للمحفزات المرتبطة بالصدمة للتقليل من خوفه ورفضه لها.
- العلاج الجماعي: يوفر بيئة داعمة مع أشخاص يواجهون مشاكل مشابهة.
الدعم الاجتماعي والعائلي
- توفير بيئة آمنة ومطمئنة تساعد المريض على الشعور بالأمان.
- تحفيز المريض على المشاركة الاجتماعية تدريجيًا.
- تعليم الأسرة كيفية التعامل مع الحالة بصبر وتعاطف.
الأدوية
- لا توجد أدوية محددة لفقدان الذاكرة التفارقي، لكن يمكن استخدام مضادات الاكتئاب أو مضادات القلق لعلاج الأعراض المصاحبة مثل القلق أو الاكتئاب.
في الختام
فقدان الذاكرة التفارقي هو اضطراب نفسي معقد ينجم عن تجارب صادمة أو ضغوط نفسية شديدة، ويُظهر كيف يحمي العقل نفسه من الألم النفسي عبر آليات تفكك متطورة. تشخيصه المبكر والعلاج النفسي والدعم الاجتماعي المستمر يساهمون بشكل كبير في استعادة الذاكرة وتحسين جودة حياة المتأثرين به.
الأسئلة الشائعة حول فقدان الذاكرة التفارقي
هل يمكن أن يحدث فقدان الذاكرة التفارقي بدون سبب صدمة نفسي؟
نادراً ما يحدث، إذ غالبًا ما يكون مرتبطًا بصدمة نفسية أو ضغط شديد.
هل يعود المريض لذاته بالكامل بعد العلاج؟
مع العلاج والدعم المناسبين، يمكن استعادة معظم الذكريات والعودة لوضع طبيعي.
هل فقدان الذاكرة التفارقي خطير؟
قد يكون مزعجًا جدًا ويؤثر على الحياة، لكنه لا يُعد خطرًا عضويًا على الحياة.
لا يوجد تعليقات .