في الحياة اليومية، يمر الجميع بتقلبات في المزاج. أحيانًا نشعر بالسعادة والنشاط، وأحيانًا أخرى نمر بلحظات حزن أو تعب نفسي. لكن، ماذا لو كانت هذه التقلبات المزاجية أكثر تطرفًا، وتستمر لفترات طويلة، وتؤثر بشكل ملحوظ على جودة حياة الفرد؟ هنا قد نكون أمام حالة نفسية تُعرف باسم “اضطراب المزاج الدوري” أو “الاضطراب الدوراني للمزاج” (Cyclothymic Disorder).
يُعد اضطراب المزاج الدوري من الاضطرابات النفسية المزمنة التي تندرج تحت طيف اضطرابات المزاج، ويتميز بنوبات متكررة من أعراض الهوس الخفيف والاكتئاب، لكنها لا تكون شديدة بما يكفي لتشخيص اضطراب ثنائي القطب من النوع الأول أو الثاني. وعلى الرغم من أنه غالبًا ما يُنظر إليه كاضطراب “خفيف”، إلا أن تأثيره على حياة الشخص يمكن أن يكون كبيرًا إذا لم يُفهم ويُعالج بطريقة صحيحة.
تهدف هذه المقالة إلى تسليط الضوء على هذا الاضطراب من خلال تقديم شرح علمي مبسط يغطي المفهوم، الأعراض، الأسباب، الأنواع، التشخيص، والعلاج، بالإضافة إلى طرق الوقاية. المقال موجه لكل من يسعى لفهم هذا الاضطراب، سواء كان باحثًا، طالبًا، أو شخصًا يمر بهذه التجربة.
مفهوم اضطراب المزاج الدوري
اضطراب المزاج الدوري[1] هو اضطراب نفسي مزمن يتصف بتقلبات مزاجية متكررة تتراوح بين نوبات من الهوس الخفيف (Hypomania) ونوبات من الاكتئاب الخفيف أو المتوسط. هذه التقلبات لا تصل إلى شدة اضطراب ثنائي القطب، لكنها تظل مؤثرة على سلوك الشخص وطريقة تفكيره وأدائه الاجتماعي أو المهني.
يُصنف اضطراب المزاج الدوري كجزء من طيف اضطراب ثنائي القطب، وغالبًا ما يُنظر إليه على أنه الشكل “الأخف” أو “الأقل حدة” من اضطرابات المزاج ثنائية القطب. ومع ذلك، فإن التغير المستمر والمزمن في المزاج قد يسبب صعوبات كبيرة في التفاعل الاجتماعي، اتخاذ القرارات، الاستقرار في العمل أو الدراسة، وحتى في العلاقات العاطفية.
عادةً ما يظهر الاضطراب في مرحلة المراهقة أو بداية البلوغ، وقد يستمر لعدة سنوات دون تشخيص. وفي بعض الحالات، قد يتطور إلى اضطراب ثنائي القطب إذا لم يُعالج بالشكل الصحيح.
أعراض اضطراب المزاج الدوري
تتفاوت أعراض اضطراب المزاج الدوري[2] بين شخص وآخر، لكنها تتضمن نمطًا متكرّرًا من نوبات الهوس الخفيف والاكتئاب الخفيف. تستمر هذه الأعراض عادةً لأيام أو أسابيع، وقد تتبدل بسرعة أو تتداخل في بعض الأحيان.
في نوبات الهوس الخفيف، يشعر الشخص بزيادة في النشاط والطاقة، وقد يكون أكثر اجتماعية أو مفرطًا في التفاؤل. قد يعاني من قلة النوم دون أن يشعر بالتعب، ويميل إلى اتخاذ قرارات متهورة أو التصرف باندفاع. من ناحية أخرى، في نوبات الاكتئاب الخفيف، يشعر الشخص بالحزن، فقدان الاهتمام، قلة التركيز، ضعف الطاقة، والشعور بالذنب أو قلة القيمة.
ما يميز اضطراب المزاج الدوري عن اضطرابات المزاج الأخرى هو أن الأعراض لا تكون شديدة بالقدر الكافي لتُصنف كـ”نوبة هوس” أو “نوبة اكتئاب شديدة”، ولكنها مع ذلك تؤثر بشكل مزمن على نمط حياة الفرد وتُسبب ضغوطًا نفسية.
أسباب اضطراب المزاج الدوري
أسباب اضطراب المزاج الدوري[3] ليست معروفة تمامًا، لكن الأبحاث تشير إلى وجود مجموعة من العوامل التي قد تلعب دورًا في تطور هذا الاضطراب، ومنها:
- الوراثة: وجود تاريخ عائلي لاضطرابات المزاج، مثل اضطراب ثنائي القطب أو الاكتئاب.
- اختلال كيمياء الدماغ: خلل في النواقل العصبية (مثل السيروتونين والدوبامين) المرتبطة بتنظيم المزاج.
- العوامل البيئية: التعرض لصدمات نفسية في الطفولة أو أحداث حياتية مرهقة.
- العوامل النفسية: وجود سمات شخصية معينة مثل الاندفاعية أو الحساسية المفرطة.
- الضغوط الاجتماعية: مشاكل في العلاقات، الضغوط الدراسية أو المهنية.
- نمط النوم غير المنتظم: حيث أن قلة النوم أو اضطرابه قد يؤثر في استقرار المزاج.
- تعاطي المخدرات أو الكحول: قد يسهم في تفاقم الأعراض أو تحفيز ظهور الاضطراب.
مقال ذي صلة: التقلبات المزاجية: أسبابها، أنواعها وكيفية التعامل معها
أنواع اضطراب المزاج الدوري
على الرغم من أن اضطراب المزاج الدوري يُصنف عادةً كنوع واحد، إلا أن هناك تباينًا في الطريقة التي يظهر بها لدى الأفراد. يمكن تصنيفه بشكل غير رسمي إلى الأنواع التالية بناءً على النمط السائد من الأعراض:
- النوع النشط (النشط المزاجي): يتميز بسيطرة نوبات الهوس الخفيف على الدورة المزاجية.
- النوع المكتئب: تهيمن فيه نوبات الاكتئاب الخفيف بشكل أكبر.
- النوع المتوازن (المتغير): يظهر فيه توازن نسبي بين فترات الهوس الخفيف والاكتئاب.
- النوع السريع التبدل (Rapid Cycling): يحدث فيه تبدل سريع بين فترات الهوس الخفيف والاكتئاب خلال فترة قصيرة.
طرق تشخيص اضطراب المزاج الدوري
تشخيص اضطراب المزاج الدوري يتطلب تقييمًا دقيقًا من قبل اختصاصي في الطب النفسي. لا توجد اختبارات مخبرية أو تصويرية مباشرة لتشخيص هذا الاضطراب، لذلك يعتمد الأطباء على المقابلات السريرية والتاريخ النفسي للمريض.
حسب معايير الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية (DSM-5)، يشترط لتشخيص اضطراب المزاج الدوري أن يعاني الشخص من فترات متكررة من أعراض الهوس الخفيف وأعراض الاكتئاب لمدة لا تقل عن سنتين (أو سنة واحدة عند الأطفال والمراهقين)، دون أن تصل هذه الأعراض لشدة كافية لتُشخّص كاضطراب ثنائي القطب من النوع الأول أو الثاني.
كما يجب ألا تكون هناك فترات خالية من الأعراض لأكثر من شهرين متتاليين خلال هذه الفترة. غالبًا ما يُستبعد تشخيص الاضطرابات النفسية الأخرى قبل التأكد من الحالة، كما يُؤخذ بعين الاعتبار تأثير الأدوية أو تعاطي المواد المخدرة.
طرق علاج اضطراب المزاج الدوري
علاج اضطراب المزاج الدوري[4] يهدف إلى تقليل حدة التقلبات المزاجية وتحسين جودة حياة المريض. ويتضمن مجموعة من الوسائل:
- العلاج الدوائي:
- مثبتات المزاج مثل الليثيوم أو فالبروات الصوديوم.
- أحيانًا يُستخدم مضادات الاكتئاب بحذر، وغالبًا مع مثبتات المزاج.
- أدوية مضادة للذهان من الجيل الثاني في بعض الحالات.
- العلاج النفسي:
- العلاج السلوكي المعرفي (CBT) لمساعدة المريض في التعرف على أنماط التفكير السلبي.
- العلاج الأسري لدعم البيئة الاجتماعية للمريض.
- العلاج المعرفي الموجه لإدارة نوبات الهوس الخفيف.
- التثقيف النفسي:
- تعليم المريض وأسرته عن طبيعة الاضطراب، الأعراض، والطرق الفعالة للتعامل معه.
- تعديل نمط الحياة:
- تحسين جودة النوم والروتين اليومي.
- ممارسة الرياضة بانتظام.
- تجنب المواد المنبهة مثل الكافيين والكحول.
- المتابعة المنتظمة:
- مراقبة الأعراض وتعديل العلاج حسب الحاجة.
طرق الوقاية من اضطراب المزاج الدوري
لا توجد طريقة مضمونة لمنع حدوث اضطراب المزاج الدوري، لكن يمكن اتخاذ مجموعة من الخطوات الوقائية التي تساهم في تقليل احتمالية تفاقم الأعراض أو تحولها إلى اضطراب ثنائي القطب. تبدأ الوقاية من خلال الوعي المبكر بالأعراض، واللجوء للعلاج النفسي عند ملاحظة تقلبات مزاجية غير مبررة أو متكررة. كما أن الالتزام بخطة العلاج، والمتابعة الدورية مع الطبيب المختص، والابتعاد عن المحفزات مثل تعاطي الكحول أو المخدرات، تعتبر من أهم أساليب الوقاية.
كذلك، يلعب الدعم الاجتماعي والعائلي دورًا كبيرًا في مساعدة الشخص على التكيف مع الأعراض، ومنع تطورها. المحافظة على نمط حياة صحي، وتعلم استراتيجيات التكيف مع الضغوط النفسية، يمكن أن يساعد في تعزيز الاستقرار المزاجي على المدى الطويل.
في الختام
اضطراب المزاج الدوري هو حالة نفسية مزمنة ولكنها قابلة للعلاج والتعامل معها بفعالية. على الرغم من أنه قد يبدو أقل حدة من اضطرابات المزاج الأخرى، إلا أن تأثيره على حياة الأفراد لا يقل أهمية. فهم هذا الاضطراب بشكل علمي ومبسط يساعد في كسر الحواجز المحيطة بالصحة النفسية، ويمنح الأشخاص المصابين وأسرهم الأدوات اللازمة للتعامل معه بثقة ووعي.
إن الهدف من هذا المقال ليس فقط تقديم معلومات طبية، بل أيضًا نشر الوعي وتشجيع الباحثين والمهتمين على التعمق أكثر في فهم الاضطرابات النفسية، والاعتراف بأهمية الصحة النفسية كجزء لا يتجزأ من حياة الإنسان.
لا يوجد تعليقات .