اضطراب الشخصية الانفصامية، المعروف سابقًا باسم اضطراب الهوية المتعددة، هو حالة نفسية معقدة تتميز بانقسام الشخص إلى هويات متعددة أو أشكال مختلفة من الشخصية، تتحكم كل منها في التفكير والسلوك في أوقات مختلفة. يعاني المصابون من فقدان الذاكرة الجزئي أو الكامل لبعض الأحداث الشخصية، وغياب التواصل النفسي بين الهويات المتعددة، مما يسبب اضطرابًا كبيرًا في حياتهم اليومية.
يعتبر هذا الاضطراب من الحالات النادرة نسبيًا، ولكنه يكتسب اهتمامًا متزايدًا في الطب النفسي، نظرًا لتأثيره العميق على حياة المصاب وعلاقاته الاجتماعية والمهنية. وغالبًا ما يكون ناتجًا عن صدمات نفسية حادة في مرحلة الطفولة، مثل سوء المعاملة أو الاعتداء الجنسي، وتعمل الهويات المتعددة كآلية دفاعية لحماية النفس من الألم النفسي الشديد.
تأثير اضطراب الشخصية الانفصامية يظهر في مجالات مختلفة: فقد يؤدي إلى صعوبة في أداء المهام اليومية، وفقدان الوظائف، وتوتر العلاقات الأسرية والاجتماعية، وفي بعض الحالات قد يرتبط بسلوكيات خطرة أو اضطرابات نفسية مصاحبة مثل الاكتئاب أو القلق.
مفهوم اضطراب الشخصية الانفصامية
اضطراب الشخصية الانفصامية[1] هو اضطراب نفسي يظهر من خلال انقسام الهوية أو الشخصية إلى هويات متعددة مستقلة، كل منها له خصائصه، ذكرياته، مشاعره، وسلوكياته الخاصة. يشعر الشخص المصاب أحيانًا بفقدان السيطرة على نفسه، ويلاحظ تغييرات كبيرة في المزاج والتفكير والسلوك بين الهويات المختلفة.
الاضطراب يختلف عن التغيرات الطبيعية في المزاج أو الشخصية. فهو يتسم بفقدان الاتساق الذاتي، وانقطاع الذاكرة بين الهويات، والتغير المفاجئ في التصرفات، بحيث يشعر المحيطون بالشخص بأنه مختلف تمامًا في كل مرة يظهر فيها “هوية” جديدة.
يعتبر الانفصال النفسي (Dissociation) آلية دفاعية أساسية في هذا الاضطراب، حيث تساعد الشخص على التعامل مع الصدمات النفسية الشديدة التي قد يكون من الصعب مواجهتها. وبمرور الوقت، قد تتحول هذه الآلية إلى نمط مزمن من الانفصال يعيق قدرة الشخص على العيش بطريقة متماسكة وفعالة.
أعراض اضطراب الشخصية الانفصامية
يعاني الشخص المصاب من فقدان الذاكرة الجزئي أو الكامل للأحداث اليومية أو الذكريات الشخصية المهمة، مما يؤدي إلى شعور بالفراغ الزمني أو “الزمن الضائع”. قد يظهر تغييرات مفاجئة في السلوك والمزاج، بحيث يبدو للشخص نفسه وللآخرين وكأنه شخص مختلف تمامًا أحيانًا.
تتسم الهويات المختلفة بقدرتها على التحكم في السلوك بطريقة مستقلة، حيث يمكن لهوية واحدة أن تتصرف بطابع معين، بينما تظهر هوية أخرى بصفات مختلفة تمامًا، مثل اختلاف اللغة أو الأسلوب في الكلام، أو تباين الاهتمامات والهوايات.
كما يعاني المصابون من صعوبة في الحفاظ على العلاقات الشخصية والاجتماعية، بسبب التناقض في القرارات والسلوكيات التي تتخذها الهويات المختلفة. قد تظهر أعراض جسدية مرتبطة بالاضطراب، مثل الصداع المزمن، اضطرابات النوم، أو الألم الجسدي غير المبرر.
في بعض الحالات، يمكن أن يصاحب الاضطراب مشكلات نفسية أخرى مثل الاكتئاب، القلق، الهلاوس، أو التفكير الانتحاري، خاصة إذا لم يتم التعامل مع الحالة بشكل مناسب.
أسباب اضطراب الشخصية الانفصامية
تتعدد أسباب اضطراب الشخصية الانفصامية، وغالبًا ما تكون نتيجة تفاعل عوامل بيولوجية، نفسية، وبيئية، وتشمل:
- الصدمات النفسية في الطفولة: التعرض لسوء المعاملة الجسدية، العاطفية، أو الاعتداء الجنسي يعد من أهم عوامل الخطر.
- الحرمان العاطفي: نقص الدعم العاطفي والرعاية في مرحلة الطفولة يمكن أن يؤدي إلى تطوير الانفصال النفسي كآلية دفاعية.
- الاستعداد الوراثي: بعض الدراسات تشير إلى وجود عوامل جينية تجعل بعض الأفراد أكثر عرضة لتطوير اضطرابات الانفصال.
- الضغوط النفسية الشديدة: التعرض المستمر للتوتر أو الصدمات العاطفية في مراحل الحياة المختلفة.
- آليات الدفاع النفسي: الانفصال النفسي يعمل كآلية لحماية النفس من التجارب المؤلمة أو المهددة للهوية.
- التعرض لتجارب حياتية متكررة تهدد الأمان النفسي: مثل الحروب، الكوارث الطبيعية، أو فقدان أحد الوالدين بشكل مفاجئ.
- الاضطرابات النفسية المصاحبة: وجود اضطرابات أخرى مثل اضطرابات القلق أو الاكتئاب قد يزيد من احتمالية الانفصال النفسي.
أنواع اضطراب الشخصية الانفصامية
يمكن تصنيف اضطراب الشخصية الانفصامية إلى عدة أنواع، حسب طبيعة الهويات وطريقة الانفصال:
- اضطراب الهوية المتعددة الكلاسيكي: وجود هويتين أو أكثر تتحكم في سلوك الشخص بالتناوب.
- اضطراب الهوية الجزئي: تتداخل الهويات وتشارك بعض السمات أو الذكريات.
- الانفصال النفسي الحاد: شعور قوي بالانفصال عن الذات أو الواقع، وقد يشمل الهلوسة أو فقدان الإدراك الزمني.
- الهويات الخاصة بالسلوكيات أو العواطف: تتحكم هويات معينة في سلوكيات محددة أو مشاعر معينة فقط.
- الاضطراب المختلط: مزيج من الأنواع السابقة يظهر لدى بعض الأفراد، مع تغيّر مستمر بين الهويات وسلوكيات متنوعة.
طرق تشخيص اضطراب الشخصية الانفصامية
تشخيص اضطراب الشخصية الانفصامية يتطلب تقييمًا دقيقًا من قبل طبيب نفسي أو أخصائي نفسي، ويعتمد على عدة خطوات: يبدأ التشخيص بالمقابلة السريرية المعمقة التي تشمل التاريخ النفسي والجسدي للشخص، مع التركيز على الأحداث الصادمة في الطفولة، وأنماط السلوك والانفصال.
قد تُستخدم أدوات تقييم مثل المقابلات المنظمة والاستبيانات النفسية التي تقيس مستوى الانفصال، الهويات المختلفة، وفقدان الذاكرة الجزئي أو الكامل. من المهم استبعاد اضطرابات أخرى تشبه الأعراض، مثل الفصام، الاكتئاب الشديد، اضطرابات القلق، أو اضطرابات الشخصية الأخرى. يعتمد التشخيص أيضًا على ملاحظة التغيرات في السلوك والمزاج أثناء المقابلة، ومقارنة هذه التغيرات مع الخبرات الحياتية للشخص.
طرق علاج اضطراب الشخصية الانفصامية
العلاج الفعال لاضطراب الشخصية الانفصامية[2] يعتمد على الدمج بين العلاج النفسي والدعم الاجتماعي، وأحيانًا الأدوية، وتشمل:
- العلاج النفسي الفردي: يركز على تطوير وعي الشخص بهوياته المختلفة ومعالجة الصدمات النفسية الكامنة وراء الانفصال.
- العلاج السلوكي المعرفي (CBT): لمساعدة المريض على التعرف على الأنماط الفكرية والسلوكية الضارة والتحكم في السلوكيات الانفصالية.
- العلاج الجماعي ومجموعات الدعم: لتبادل الخبرات والدعم النفسي من أشخاص يواجهون اضطرابات مماثلة، وتعزيز الشعور بالأمان والانتماء.
- الأدوية: لا تعالج الاضطراب بشكل مباشر، لكنها تستخدم للتخفيف من الأعراض المصاحبة مثل الاكتئاب أو القلق، أو اضطرابات النوم.
- العلاج بالتنويم الإيحائي: يُستخدم أحيانًا لاسترجاع الذكريات المفقودة أو معالجة الصدمات العاطفية العميقة.
- تقنيات إدارة التوتر والاسترخاء: التأمل، اليوغا، وتمارين التنفس العميق تساعد على تقليل الانفصال النفسي الناتج عن الضغوط اليومية.
- توحيد الهوية تدريجيًا: عبر جلسات علاجية طويلة لمساعدة الشخص على دمج الهويات المتعددة وتحقيق اتساق أكبر في التفكير والسلوك.
- التعليم النفسي للأسرة: توعية أفراد الأسرة بكيفية التعامل مع المصاب، ودعم الاستقرار النفسي، وتعزيز قدرة الشخص على التحكم في سلوكه.
طرق الوقاية من اضطراب الشخصية الانفصامية
الوقاية من اضطراب الشخصية الانفصامية قد لا تكون دائمًا ممكنة، خاصة إذا كان مرتبطًا بالصدمات الطفولية، لكن يمكن التقليل من شدته أو المضاعفات عبر:
الوعي المبكر بالأعراض والتوجه للحصول على دعم نفسي عند ملاحظة تغييرات غير طبيعية في السلوك أو المزاج. دعم الأطفال والمراهقين الذين تعرضوا لصدمات نفسية أو صعوبات عاطفية، من خلال توفير بيئة آمنة ومستقرة، ورعاية عاطفية متواصلة. تعليم استراتيجيات التعامل مع التوتر والصدمات بشكل صحي، مثل التعبير عن المشاعر، ممارسة الرياضة، وتبني أساليب الاسترخاء.
متابعة الصحة النفسية بشكل دوري، والبحث عن العلاج المبكر لأي اضطرابات نفسية مصاحبة مثل الاكتئاب أو القلق، لتقليل احتمالية تفاقم الانفصال النفسي. تعزيز الدعم الاجتماعي والأسري، وتشجيع المصابين على الانخراط في نشاطات جماعية تساعدهم على بناء شبكة دعم قوية تقلل من شعور العزلة والانفصال.
في الختام
اضطراب الشخصية الانفصامية هو حالة نفسية معقدة تؤثر على الهوية، التفكير، والسلوك، وتستدعي اهتمامًا طبيًا ونفسيًا مستمرًا. الفهم العميق للأعراض، الأسباب، الأنواع، وطرق العلاج يساعد في تحسين التشخيص والتدخل العلاجي، ويقلل من تأثير الاضطراب على الحياة اليومية والعلاقات الاجتماعية.
الدعم النفسي المبكر، العلاج السلوكي، ومتابعة الصحة النفسية المنتظمة هي مفاتيح أساسية لاستعادة التوازن النفسي وتحقيق اتساق الهوية لدى المصابين، مما يساهم في تعزيز جودة حياتهم النفسية والاجتماعية، والحد من المضاعفات طويلة الأمد.
لا يوجد تعليقات .