في عصر تتسارع فيه المعرفة الطبية وتنتشر الأمراض الجسدية والنفسية، يظهر نوع خاص من الاضطرابات النفسية التي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالخوف والقلق على الصحة: إنه اضطراب التوهم المرضي. يتردد الكثير من الناس على العيادات الطبية بسبب مخاوف صحية لا تستند إلى أعراض حقيقية أو إلى تشخيص طبي مؤكد، بل نتيجة اعتقاد راسخ لديهم بأنهم مصابون بمرض خطير. هذا النوع من القلق المرضي يعرف في الطب النفسي باسم “اضطراب التوهم المرضي”، ويصنف كأحد اضطرابات القلق المتعلقة بالصحة. في هذا المقال، سنغوص في عمق هذا الاضطراب، لنفهم أسبابه، أعراضه، أنواعه، طرق تشخيصه، وعلاجه، مع التركيز على تقديم المعلومة بطريقة علمية مبسطة تساعد الباحث على التعلم والفهم.
مفهوم اضطراب التوهم المرضي
اضطراب التوهم المرضي [1]) هو اضطراب نفسي مزمن يتمثل في القلق المفرط والمستمر من الإصابة بمرض خطير، رغم عدم وجود دليل طبي يؤكد ذلك. يعتقد المصاب أنه يعاني من مشكلة صحية خطيرة بناءً على أعراض جسدية طفيفة أو حتى غير موجودة، ويستمر في البحث عن تشخيص طبي رغم تطمينات الأطباء ونتائج الفحوصات السليمة.
يُصنف هذا الاضطراب ضمن فئة اضطرابات القلق، وقد كان يُعرف سابقًا باسم “الهيبوكوندريا” (Hypochondriasis)، لكنه أعيد تصنيفه في الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية (DSM-5) تحت مسمى “اضطراب القلق المرضي”. الأشخاص الذين يعانون من هذا الاضطراب يميلون إلى تفسير كل إحساس جسدي عادي كعلامة على وجود مرض قاتل، مثل السرطان أو أمراض القلب أو الأعصاب.
أعراض اضطراب التوهم المرضي
تتراوح أعراض اضطراب التوهم المرضي [2] بين الجسدية والنفسية، وغالبًا ما تبدأ بشكل تدريجي ثم تتطور مع الوقت. يظهر الشخص المصاب قلقًا دائمًا حول صحته، حتى لو لم يكن هناك دليل ملموس على وجود مرض. كما يكثر من زيارة الأطباء ويطلب فحوصات متكررة، أو على العكس، قد يتجنب تمامًا الذهاب إلى الطبيب خوفًا من اكتشاف مرض خطير.
من أبرز الأعراض أن الشخص يراقب جسده باستمرار بحثًا عن علامات المرض، مثل الألم، الخفقان، أو حتى نبضات القلب. وعند شعوره بأي عرض بسيط، يبدأ بالبحث عبر الإنترنت أو يسأل الأطباء عن هذا العرض، مما يزيد من قلقه بدلاً من طمأنته. كما يظهر على المصاب صعوبة في الاقتناع بنتائج التحاليل الطبية، وغالبًا ما يشكك في تشخيص الأطباء. وفي بعض الحالات، قد تؤثر هذه الأعراض على حياة الشخص الاجتماعية والوظيفية بسبب الانشغال الدائم بصحته.
أسباب اضطراب التوهم المرضي
- عوامل وراثية: وجود تاريخ عائلي للإصابة باضطرابات القلق أو الاكتئاب.
- تجارب مرضية سابقة: مر الشخص أو أحد المقربين منه بمرض خطير في الماضي.
- اضطرابات القلق العام: القلق المفرط قد يتحول إلى هوس بالصحة.
- نمط التفكير السلبي: الميل إلى تفسير الأعراض الجسدية بشكل سلبي أو كارثي.
- التعرض المستمر للمعلومات الطبية: مثل مشاهدة أخبار الأمراض أو تصفح الإنترنت بحثًا عن أعراض.
- البيئة المحيطة: التربية في بيئة تُضخم من أهمية الأعراض الجسدية قد تؤثر في تطور الاضطراب.
- عوامل كيميائية في الدماغ: خلل في النواقل العصبية المرتبطة بالقلق مثل السيروتونين.
أنواع اضطراب التوهم المرضي
- النوع القلق: يركّز على القلق المستمر والخوف من الإصابة بمرض دون وجود أعراض ملحوظة.
- النوع التفسيري الجسدي: يتضمن وجود أعراض جسدية طفيفة يتم تفسيرها بطريقة مبالغ فيها كمؤشر على مرض خطير.
- النوع المتجنب: يتجنب الشخص زيارة الأطباء أو إجراء الفحوصات خوفًا من تأكيد شكوكه.
- النوع المراجع المفرط: يزور الأطباء بشكل متكرر ويطلب اختبارات طبية عديدة.
- النوع المزمن: يستمر الاضطراب لسنوات دون تحسن واضح رغم التطمينات الطبية.
- النوع المتقلب: تتغير نوعية الأعراض أو الأعضاء التي يقلق بشأنها الشخص من وقت لآخر.
مقال ذي صلة: المتلازمة العضوية النفسية
طرق تشخيص اضطراب التوهم المرضي
تشخيص اضطراب التوهم المرضي يعتمد على التقييم النفسي الدقيق من قِبل اختصاصي في الطب النفسي أو علم النفس الإكلينيكي. يبدأ الطبيب أولًا باستبعاد أي سبب عضوي للأعراض من خلال الفحوصات والتحاليل الطبية اللازمة. بعد التأكد من سلامة الجسد، يتم التركيز على الجوانب النفسية للمريض.
يعتمد التشخيص على المعايير الواردة في الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية (DSM-5)، والتي تشمل القلق المفرط بشأن الصحة، استمرار المخاوف رغم الفحوصات الطبية السليمة، وتأثير هذه المخاوف على الحياة اليومية للمريض. يجب أن تستمر هذه الأعراض لمدة 6 أشهر على الأقل لكي يتم تشخيص الحالة كاضطراب توهم مرضي، مع التأكد من أنها لا تعود لأسباب نفسية أخرى مثل اضطراب الوسواس القهري أو اضطراب القلق العام.
طرق علاج اضطراب التوهم المرضي
فيما يلي أهم طرق علاج اضطراب التوهم المرضي [3]:
- العلاج المعرفي السلوكي: يعد العلاج الأكثر فاعلية، حيث يساعد الشخص على تعديل الأفكار السلبية والمعتقدات الخاطئة عن صحته.
- العلاج الدوائي: استخدام مضادات الاكتئاب مثل مثبطات استرداد السيروتونين (SSRIs) لتقليل القلق المرتبط بالحالة.
- العلاج النفسي الديناميكي: يهدف إلى فهم الجذور العاطفية والنفسية للاضطراب.
- التثقيف الصحي: توعية المريض بفهم طبيعة الأعراض الجسدية وتفسيرها بشكل منطقي.
- التعرض ومنع الاستجابة: تعريض المريض للمواقف التي يخشاها بشكل تدريجي ومساعدته على تقبل الغموض الطبي.
- العلاج الجماعي: المشاركة في مجموعات دعم مع أشخاص يعانون من اضطرابات مشابهة.
- المراقبة المنتظمة: من قبل طبيب نفسي أو طبيب الأسرة لتقليل القلق بدون تشجيع السلوك التوهمي.
- تقنيات الاسترخاء: مثل تمارين التنفس العميق، التأمل، واليوغا لتقليل التوتر.
طرق الوقاية من اضطراب التوهم المرضي
رغم صعوبة الوقاية الكاملة من اضطراب التوهم المرضي، فإن اتباع أسلوب حياة نفسي وصحي متوازن قد يقلل من احتمالية الإصابة به. يبدأ ذلك بتعليم الأطفال منذ الصغر كيفية التعامل مع القلق والأفكار السلبية بطريقة واقعية. كما أن تعزيز مهارات التكيف، مثل حل المشكلات والتفكير المنطقي، يُعد وسيلة فعالة لحماية الشخص من تطور التفكير المرضي. من المفيد أيضًا تجنب الإفراط في البحث عن المعلومات الطبية على الإنترنت، والاعتماد على مصادر موثوقة. وفي حال ظهور بوادر قلق مفرط على الصحة، يُفضل التوجه مبكرًا لاختصاصي نفسي قبل تفاقم الحالة.
في الختام
اضطراب التوهم المرضي ليس مجرد قلق عابر بشأن الصحة، بل هو اضطراب نفسي حقيقي قد يؤثر سلبًا على جودة حياة الشخص، وعلاقاته، وأدائه اليومي. ومع ذلك، فإن التعرف على هذا الاضطراب، وفهم أسبابه وأعراضه وطرق علاجه، يساعد بشكل كبير في التعامل معه بطريقة علمية وفعالة. إذا كنت باحثًا في هذا المجال أو تعاني من بعض هذه الأعراض، فاعلم أن طلب المساعدة النفسية ليس ضعفًا، بل خطوة شجاعة نحو التعافي. العلم والوعي هما أول الطريق نحو الشفاء.
لا يوجد تعليقات .