يمثل التعلم أحد أهم العمليات النفسية والعصبية التي يمر بها الإنسان، خاصة في مراحل الطفولة والمراهقة. لكن، ليس كل الأطفال يسيرون على نفس المنوال في مسار التعلم، فبعضهم يواجه صعوبات واضحة ومستمرة، رغم امتلاكهم مستوى طبيعي من الذكاء، والبيئة التعليمية المناسبة. أحد أبرز هذه الحالات هو “اضطراب التعلم المحدد” (Specific Learning Disorder – SLD)، وهو اضطراب عصبي يؤثر على قدرة الطفل في اكتساب أو استخدام مهارات أكاديمية محددة، مثل القراءة أو الكتابة أو الرياضيات.
في هذا المقال، سنسلط الضوء على هذا الاضطراب من جميع جوانبه بطريقة مبسطة وعلمية، وسنقدّم معلومات موثوقة وسهلة الفهم تساعد الباحث على التعرف على الأعراض، الأسباب، الأنواع، وطرق التشخيص والعلاج والوقاية.
مفهوم اضطراب التعلّم المحدد
اضطراب التعلم المحدد[1] هو اضطراب نمائي عصبي يؤثر على واحد أو أكثر من مجالات التعلم الأساسية، مثل القراءة (عُسر القراءة)، الكتابة (عُسر الكتابة)، أو الرياضيات (عُسر الحساب)، وذلك بالرغم من توفر بيئة تعليمية جيدة، وقدرة عقلية طبيعية.
هذا الاضطراب لا يرتبط بمشاكل في الذكاء أو التحفيز، لكنه يُعد نتيجة لاختلال في الطريقة التي يُعالج بها الدماغ المعلومات. وغالبًا ما يُلاحظ في سنوات الدراسة الأولى، حيث يظهر الطفل أداءً أقل بكثير من المتوقع مقارنة بأقرانه في مهارات أكاديمية محددة، ويستمر هذا الخلل حتى مع الدعم والتدخلات التربوية المعتادة.
ويختلف اضطراب التعلم المحدد عن “صعوبات التعلم العامة”، لأنه لا يؤثر على كل الجوانب الدراسية بل يتركز في مجال واحد أو أكثر، بينما تبقى القدرات الأخرى سليمة.
أعراض اضطراب التعلم المحدد
تظهر أعراض اضطراب التعلم المحدد[2] في مرحلة الطفولة المبكرة، غالبًا عند دخول المدرسة، وتختلف الأعراض باختلاف نوع المهارة المتأثرة. يعاني الطفل من صعوبات ملحوظة في القراءة أو الكتابة أو الحساب مقارنة بأقرانه، رغم الجهود التعليمية المبذولة والدعم الأسري. قد يظهر عليه التوتر، قلة الثقة بالنفس، أو الإحباط من أداء المهام الأكاديمية.
على سبيل المثال، في حالة عُسر القراءة، يواجه الطفل صعوبة في ربط الحروف بالأصوات، أو في تهجئة الكلمات، أو في قراءة النصوص بطلاقة. في عسر الكتابة، يظهر لدى الطفل ضعف في التعبير الكتابي أو تنظيم الأفكار على الورق. أما في عسر الحساب، فإنه يواجه صعوبة في فهم المفاهيم العددية، أو إجراء العمليات الحسابية البسيطة.
الأطفال المصابون باضطراب التعلم المحدد قد يتجنبون الأنشطة التعليمية، ويبدون مقاومة للواجبات المدرسية، ويعانون من انخفاض التحصيل الدراسي. ومع مرور الوقت، قد تتأثر ثقتهم بأنفسهم وتتطور لديهم مشكلات سلوكية أو عاطفية.
أسباب اضطراب التعلم المحدد
رغم أن السبب الدقيق غير معروف دائمًا، إلا أن الدراسات العلمية تُظهر أن اضطراب التعلم المحدد يرتبط بعوامل متعددة، منها:
- عوامل وراثية: وجود تاريخ عائلي لاضطرابات التعلم يزيد من احتمالية الإصابة.
- خلل في معالجة المعلومات داخل الدماغ: خصوصًا في المناطق المسؤولة عن اللغة أو الحساب أو المهارات الحركية الدقيقة.
- اختلالات في النمو العصبي أثناء الحمل أو الولادة: مثل الولادة المبكرة أو نقص الأوكسجين.
- الاختلافات في تركيب الدماغ أو وظائفه: كما أظهرت دراسات التصوير بالرنين المغناطيسي.
- صعوبات في اللغة المبكرة: تأخر الكلام أو اللغة قد يكون مؤشرًا أوليًا.
- مشكلات أثناء الحمل: مثل التعرض للسموم أو العدوى.
- العوامل البيئية: كالفقر، أو نقص التحفيز اللغوي والمعرفي المبكر.
أنواع اضطراب التعلم المحدد
يُصنّف اضطراب التعلم المحدد إلى ثلاثة أنواع رئيسية، حسب المهارة الأكاديمية المتأثرة:
- اضطراب القراءة (Dyslexia – عُسر القراءة) صعوبة في التعرّف على الكلمات، وفهم النصوص، والتهجئة، وربط الحروف بالأصوات.
- اضطراب الكتابة (Dysgraphia – عُسر الكتابة) صعوبات في الخط، وتكوين الجمل، وتنظيم الأفكار كتابيًا، والإملاء.
- اضطراب الحساب (Dyscalculia – عُسر الحساب) صعوبة في فهم الأرقام، وإجراء العمليات الرياضية، واستخدام المفاهيم العددية.
قد يعاني الطفل من نوع واحد أو أكثر في الوقت نفسه، كما قد يتفاوت التأثير من خفيف إلى شديد.
مقال ذي صلة: الصحة النفسية وطرق تعزيزها
طرق تشخيص اضطراب التعلم المحدد
يُشخّص اضطراب التعلم المحدد من خلال تقييم شامل من قبل فريق متعدد التخصصات، يشمل الطبيب النفسي، الأخصائي النفسي، وأخصائي التربية الخاصة. يبدأ التقييم غالبًا عندما يُلاحظ تفاوت كبير بين مستوى الطفل في مجال دراسي معين ومستوى ذكائه العام أو تحصيله في المواد الأخرى.
يعتمد التشخيص على معايير الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية (DSM-5)، حيث يجب أن تكون الصعوبات مستمرة لمدة لا تقل عن 6 أشهر، رغم التدخلات التعليمية المناسبة.
يشمل التقييم اختبارات معرفية ونفسية وقياس القدرات الأكاديمية، إضافة إلى مقابلات مع الأهل والمعلمين. يجب استبعاد الأسباب الأخرى مثل مشاكل السمع أو البصر، أو التوحد، أو القصور الذهني.
يُفضل أن يتم التشخيص في مرحلة مبكرة، لأن التدخل السريع يُحدث فارقًا كبيرًا في تطور الطفل الأكاديمي والنفسي.
طرق علاج اضطراب التعلم المحدد
علاج اضطراب التعلم المحدد[3] يحتاج إلى خطة شاملة فردية تتضمن الجوانب التربوية والنفسية والاجتماعية. من أبرز طرق العلاج:
- برامج التعليم الفردي (IEP): تصميم خطة تعليمية خاصة بكل طفل حسب نوع الاضطراب وشدته.
- جلسات التربية الخاصة: تركز على المهارات الضعيفة باستخدام استراتيجيات مخصصة.
- استخدام التكنولوجيا التعليمية: مثل برامج القراءة الصوتية أو الألعاب الرياضية التفاعلية.
- العلاج النفسي والدعم العاطفي: لمساعدة الطفل على التكيف، وبناء ثقته بنفسه.
- تدريب المعلمين: لتطبيق استراتيجيات تعليمية تراعي الفروقات الفردية.
- إشراك الأسرة: من خلال توجيه الأهل بكيفية دعم الطفل أكاديميًا وعاطفيًا.
- العلاج اللغوي (إذا لزم): خاصةً في حالات عُسر القراءة أو ضعف اللغة.
- البيئة الصفية الداعمة: تقليل الضغط، وتوفير فترات راحة، واستخدام وسائل بصرية.
طرق الوقاية من اضطراب التعلم المحدد
رغم أن اضطراب التعلم المحدد لا يمكن منعه بشكل كامل لأنه غالبًا ما يكون مرتبطًا بعوامل وراثية أو عصبية، إلا أن التدخل المبكر يمكن أن يُقلل من تأثيره ويمنع تطوره إلى مشكلة نفسية أو أكاديمية مزمنة.
تشمل أساليب الوقاية تعزيز النمو اللغوي والمعرفي في السنوات الأولى من حياة الطفل، من خلال القراءة اليومية، وتوفير بيئة غنية بالتفاعل واللعب. كما أن متابعة التطور اللغوي والسلوكي للأطفال الصغار تتيح الفرصة لرصد المؤشرات المبكرة للتأخر أو الصعوبات.
التوعية الأسرية والمدرسية تلعب دورًا كبيرًا في الوقاية، فمن خلال فهم خصائص الأطفال ذوي اضطراب التعلم المحدد، يمكن التعامل معهم بطريقة تراعي احتياجاتهم دون انتقاص أو تقليل من قدراتهم.
إضافةً إلى ذلك، دعم الأطفال نفسيًا وتحفيزهم دون ضغوط غير واقعية يُساعد في الحد من تأثير الاضطراب على حياتهم المستقبلية.
في الختام
اضطراب التعلم المحدد هو حالة عصبية شائعة تؤثر على أداء الأطفال الأكاديمي، لكن يمكن التعامل معها بفعالية من خلال التشخيص المبكر، وتقديم الدعم التربوي والنفسي المناسب. لا يُعد هذا الاضطراب عائقًا أمام النجاح، بل هو دعوة لتبنّي طرق تعليمية أكثر مرونة وشمولية تراعي الفروقات الفردية.
من المهم أن يدرك الأهل والمعلمون أن الأطفال المصابين بهذا الاضطراب يحتاجون إلى الفهم، والدعم، والتشجيع، وليس إلى العقاب أو التقليل من الذات. ومع توفر الدعم الكافي، يستطيع هؤلاء الأطفال تحقيق إمكاناتهم والنجاح في الحياة الدراسية والمهنية.
لا يوجد تعليقات .