في عالم يفرض فيه المجتمع معايير صارمة للجمال والمظهر الخارجي، يُعد اضطراب الأكل العصبي واحدًا من أبرز الاضطرابات النفسية التي تتأثر بهذه الضغوط. ورغم أن كثيرًا من الأشخاص يمرون بفترات يقلّ فيها اهتمامهم بالغذاء أو يفرطون فيه، إلا أن اضطراب الأكل العصبي يتجاوز ذلك ليُصبح حالة طبية ونفسية خطيرة قد تؤثر سلبًا على الصحة الجسدية والعقلية، بل وتصل في بعض الحالات إلى تهديد الحياة.
اضطرابات الأكل العصبي ليست مرتبطة فقط بالطعام، بل ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالصورة الذاتية، والانفعالات، ومحاولة السيطرة على مشاعر عميقة مثل القلق، الشعور بعدم الكفاية، أو الرغبة في المثالية.
سنستعرض في هذا المقال المفهوم الكامل لاضطراب الأكل العصبي، وأعراضه، وأسبابه، وأنواعه، بالإضافة إلى طرق التشخيص والعلاج والوقاية، مع شرح علمي مبسط يلائم الباحث عن الفهم ويخدم أغراض التثقيف والمساعدة.
مفهوم اضطراب الأكل العصبي
اضطراب الأكل العصبي [1] هو اضطراب نفسي يتمثل في سلوكيات غير طبيعية تجاه الطعام والأكل، تنبع من اضطرابات في التفكير والانفعالات المرتبطة بصورة الجسم، الوزن، والسيطرة على الذات.
يؤدي هذا الاضطراب إلى تغييرات شديدة في العادات الغذائية، مثل الامتناع عن الطعام، الأكل القهري، أو الإفراط في ممارسة التمارين، وغالبًا ما يرتبط بشعور دائم بعدم الرضا عن الشكل الخارجي أو الوزن، حتى في حال كانت هذه التصورات غير واقعية.
ويُصنَّف اضطراب الأكل العصبي كجزء من الاضطرابات النفسية في الدليل التشخيصي والإحصائي الخامس (DSM-5)، وتشمل أنواعه الشهيرة: فقدان الشهية العصبي، الشره المرضي العصبي، واضطراب نهم الطعام.
أعراض اضطراب الأكل العصبي
تختلف أعراض اضطراب الأكل العصبي[2] حسب نوع الاضطراب، لكن هناك سمات مشتركة تجمع بين أغلب الحالات. من أبرز الأعراض: انشغال دائم بالطعام، الوزن، والمظهر الجسدي، سواء بالإفراط أو التفريط.
غالبًا ما يظهر المصابون سلوكيات غير طبيعية تجاه الأكل، مثل الصيام الصارم، تناول كميات كبيرة من الطعام في جلسة واحدة (نوبات نهم)، أو القيء المتعمد بعد الأكل. وقد يُصاحب ذلك استخدام مُسهّلات أو أدوية تخفيف الوزن، أو ممارسة التمارين الرياضية بشكل مفرط.
من الناحية النفسية، يشعر الشخص بالذنب أو الخجل بعد الأكل، أو بالقلق المستمر من اكتساب الوزن، حتى وإن كان نحيفًا جدًا. كما يعاني من انخفاض احترام الذات، وتقلبات مزاجية، وعزلة اجتماعية بسبب الخوف من الأكل أمام الآخرين أو الانتقادات.
أما الأعراض الجسدية فقد تشمل الإرهاق، مشاكل هضمية، اضطراب في الدورة الشهرية، انخفاض درجة حرارة الجسم، تساقط الشعر، أو مشاكل في القلب في الحالات الشديدة. وفي بعض الأحيان، لا تكون الأعراض واضحة للأهل أو الأصدقاء في البداية بسبب محاولات الإخفاء المتعمدة.
أسباب اضطراب الأكل العصبي
تشترك عدة عوامل في التسبب باضطراب الأكل العصبي، منها النفسية والبيولوجية والاجتماعية، وأبرز هذه الأسباب:
- عوامل وراثية: وجود تاريخ عائلي لاضطرابات الأكل أو الاكتئاب يزيد من احتمالية الإصابة.
- خلل في المواد الكيميائية الدماغية: مثل السيروتونين والدوبامين، والتي تؤثر على المزاج والتحكم في الشهية.
- ضغوط نفسية وعاطفية: مثل التوتر، الصدمات، التعرض للتنمر، أو الفقد.
- انخفاض احترام الذات: والرغبة في الوصول إلى الكمال والمثالية.
- تأثير وسائل الإعلام: والتي تُروّج لصورة غير واقعية للجمال النحيف.
- الانتقادات المتكررة للمظهر أو الوزن: خاصة في فترة الطفولة والمراهقة.
- مشاكل في العلاقات الأسرية: مثل غياب الدعم أو الشعور بالإهمال أو الصراع العائلي.
- التحولات الجسدية في فترة المراهقة: والتي تخلق قلقًا لدى بعض الأشخاص بشأن شكل أجسامهم.
أنواع اضطراب الأكل العصبي
تُصنّف اضطرابات الأكل العصبي إلى عدة أنواع رئيسية، منها:
- فقدان الشهية العصبي (Anorexia Nervosa): يتميز بالخوف الشديد من زيادة الوزن، والامتناع عن الأكل، وفقدان وزن شديد، مع رؤية مشوهة للجسم.
- الشره المرضي العصبي (Bulimia Nervosa): نوبات من الأكل القهري يتبعها سلوكيات تعويضية مثل القيء أو استخدام المُسهّلات.
- اضطراب نهم الطعام (Binge Eating Disorder): نوبات من الأكل المفرط دون تعويض بعد ذلك، مما يؤدي إلى زيادة الوزن ومشاعر الذنب.
- اضطرابات الأكل غير المحددة: تشمل سلوكيات أكل غير طبيعية لا تنطبق على الشروط الكاملة لأي من الاضطرابات الثلاثة أعلاه، لكنها ما تزال تؤثر بشكل كبير.
طرق تشخيص اضطراب الأكل العصبي
يبدأ التشخيص عادة من خلال الملاحظة السريرية أو عند ملاحظة الأسرة أو الطبيب لتغيّرات واضحة في سلوك الأكل أو المظهر العام. يتم التشخيص من قبل طبيب نفسي أو أخصائي في الصحة العقلية باستخدام معايير الـ DSM-5، والتي تُحدّد لكل نوع من أنواع اضطراب الأكل العصبي.
يتضمن التشخيص تقييمًا شاملاً للسلوك الغذائي، التاريخ الطبي، المؤشرات الحيوية (مثل الوزن ومؤشر كتلة الجسم)، الأعراض النفسية، والعوامل الاجتماعية أو البيئية المحيطة بالمريض.
كما يتم إجراء فحوصات طبية لاستبعاد أي أمراض عضوية قد تسبّب الأعراض. وفي بعض الحالات، يُستخدم اختبار الدم، وتحاليل الهرمونات، وتقييم التغذية لتحديد مدى تأثير الاضطراب على الجسم.
من المهم أن يكون التشخيص مبكرًا، لأن التأخر في التدخل قد يؤدي إلى مضاعفات جسدية ونفسية خطيرة يصعب علاجها لاحقًا.
طرق علاج اضطراب الأكل العصبي
يعتمد علاج اضطراب الأكل العصبي[3] على الحالة ونوع الاضطراب وشدّته، ويشمل عادة:
- العلاج النفسي: وخاصة العلاج المعرفي السلوكي (CBT)، وهو العلاج الأكثر فعالية في تعديل الأفكار والسلوكيات المرتبطة بالأكل.
- العلاج الأسري: لمساعدة الأسرة على فهم الحالة ودعم المصاب، وخصوصًا في حالة المراهقين.
- العلاج الغذائي: من خلال اختصاصي تغذية لتصميم خطة غذائية صحية وآمنة تعيد التوازن الجسدي.
- العلاج الدوائي: مثل مضادات الاكتئاب أو مضادات القلق لعلاج الأعراض المصاحبة.
- العلاج الجماعي: جلسات دعم مع مرضى آخرين لمشاركة الخبرات والتشجيع.
- المراقبة الطبية المستمرة: خاصة للحالات الشديدة التي تعاني من مشكلات جسدية مثل الجفاف أو اضطرابات القلب.
- الاستشفاء: في الحالات الخطيرة التي تهدد الحياة أو تتطلب تدخلًا طبيًا عاجلًا.
طرق الوقاية من اضطراب الأكل العصبي
الوقاية من اضطراب الأكل العصبي تبدأ بتعزيز مفهوم صحي للجسم والتغذية منذ الصغر. من المهم تعليم الأطفال والمراهقين أن الجمال لا يُقاس بالوزن أو الشكل، بل بالصحة والرفاه النفسي.
يجب على الأهل أن يكونوا قدوة في تبني سلوكيات غذائية متوازنة وتجنب التعليقات السلبية على الوزن أو المظهر. كذلك، من الضروري مراقبة تأثير وسائل الإعلام على الأبناء وتقديم التوجيه المناسب حول معايير الجمال الواقعية.
كما يُنصح بالاستجابة السريعة لأي مؤشرات على اضطرابات الأكل، مثل تغيرات ملحوظة في السلوك الغذائي، أو فقدان الوزن المفاجئ، أو العزلة الاجتماعية، لأن التدخل المبكر هو مفتاح النجاح في العلاج.
وأخيرًا، يُعد وجود بيئة داعمة نفسيًا واجتماعيًا في المنزل والمدرسة عنصرًا أساسيًا في بناء احترام الذات والوقاية من سلوكيات مضطربة تجاه الطعام.
في الختام
اضطراب الأكل العصبي ليس مجرد “عادات سيئة” أو “دلَع نفسي”، بل هو اضطراب نفسي حقيقي ومعقّد يحتاج إلى فهم، دعم، وتدخل علاجي متكامل. ما يبدو في ظاهره انشغالًا بالطعام أو الوزن قد يخفي وراءه معاناة نفسية عميقة تتطلب الرعاية والاحتواء.
من خلال التوعية، والتشخيص المبكر، والعلاج المناسب، يمكن لمريض اضطراب الأكل العصبي أن يستعيد توازنه النفسي والجسدي، ويعيش حياة أكثر صحة ورضا.
إذا كنت أنت أو أحد أحبائك يعاني من أعراض مشابهة، لا تتردد في طلب المساعدة من متخصصين في الصحة النفسية. فالتعافي ممكن، والبداية تكون بالاعتراف بالمشكلة والسعي لفهمها.
لا يوجد تعليقات .