تعد اضطرابات الأكل من الحالات النفسية التي تمس جوانب متعددة من حياة الإنسان، سواء الجسدية أو النفسية أو الاجتماعية. وبينما تحظى اضطرابات مثل فقدان الشهية أو الشره المرضي باهتمام واسع، توجد اضطرابات أخرى أقل شهرة ولكنها لا تقل أهمية، ومنها اضطراب الأكل الاجتراري.
هذا الاضطراب، الذي قد يبدو غريبًا للوهلة الأولى، يُعرّف بسلوك تكراري يتمثل في إعادة مضغ الطعام بعد ابتلاعه ثم بصقه أو إعادة بلعه مرة أخرى، دون وجود سبب عضوي يفسر ذلك.
غالبًا ما يبدأ هذا الاضطراب في مرحلة الطفولة، لكنه قد يصيب البالغين أيضًا، وهو حالة تستحق الفهم والمعالجة بسبب ما تسببه من مضاعفات صحية ونفسية.
في هذا المقال، سنتناول اضطراب الاجترار الغذائي من جميع الجوانب: المفهوم، الأعراض، الأسباب، الأنواع، التشخيص، العلاج، والوقاية، بطريقة علمية مبسطة تناسب الباحث المهتم.
مفهوم اضطراب الأكل الاجتراري
اضطراب الأكل الاجتراري [1] هو اضطراب نفسي يتسم بقيام الشخص بإرجاع الطعام الذي سبق ابتلاعه إلى الفم، دون الشعور بالغثيان أو التقيؤ، ثم يعيد مضغه أو بصقه. ويختلف هذا السلوك عن التقيؤ الإرادي أو اللاإرادي؛ حيث يتم الاجترار دون وجود غثيان، وغالبًا ما يكون بشكل منتظم بعد تناول الطعام.
لا يكون السبب طبيًا أو هضميًا، بل سلوكيًا أو نفسيًا، ويستمر لأكثر من شهر حتى يُصنّف كاضطراب. تُصنّف هذه الحالة ضمن اضطرابات الأكل في الدليل التشخيصي والإحصائي الخامس للأمراض النفسية (DSM-5)، وتسبب في بعض الحالات فقدان الوزن، سوء التغذية، والانعزال الاجتماعي بسبب الإحراج.
أعراض اضطراب الأكل الاجتراري
يظهر اضطراب الاجترار من خلال سلوك متكرر لإرجاع الطعام المبتلع إلى الفم بعد فترة قصيرة من تناوله، تتراوح من بضع دقائق إلى ساعة، دون وجود تقيؤ حقيقي أو اضطراب في الجهاز الهضمي.
قد يظهر على الشخص المصاب أعراض أخرى[2] مثل:
- فقدان الوزن، خاصة عند الأطفال.
- رفض تناول الطعام أمام الآخرين.
- زيادة الوقت الذي يقضيه في الحمام بعد الأكل.
- محاولات إخفاء السلوك أو التستر عليه.
- رائحة فم كريهة بسبب تكرار الاجترار.
- مشاكل في الأسنان أو الفم بسبب تعرضه المتكرر للطعام المهضوم جزئيًا.
يُصاحب هذا الاضطراب في كثير من الحالات ضيق نفسي، والشعور بالعار أو القلق، وقد يؤدي إلى تدهور في العلاقات الاجتماعية والنفسية للمصاب.
أسباب اضطراب الأكل الاجتراري
لا توجد أسباب محددة واحدة تؤدي إلى اضطراب الأكل الاجتراري، لكن يعتقد الباحثون أن هناك تفاعلًا بين عدة عوامل، من أبرزها:
- تعلم سلوكيات غير طبيعية مبكرًا: خاصة لدى الرضع والأطفال.
- الحرمان العاطفي أو الإهمال: في مرحلة الطفولة، مما يدفع الطفل إلى تطوير سلوكيات بديلة للحصول على الراحة.
- الإجهاد أو التوتر: سواء العاطفي أو الجسدي.
- أسباب بيئية: مثل ضغوط أسرية، أو تقليد شخص آخر في المنزل.
- الإصابة باضطرابات نفسية مصاحبة: مثل التوحد أو الإعاقة الذهنية.
- وجود مشاكل في العلاقة مع الطعام: كالخوف من البلع أو الاختناق.
- الإصابة السابقة بمشاكل في الجهاز الهضمي: ما قد يخلق ارتباطًا شرطيًا سلبيًا مع تناول الطعام.
- الكمالية أو السلوكيات القهرية: خاصة لدى المراهقين والبالغين.
أنواع اضطراب الأكل الاجتراري
يمكن تصنيف اضطراب الاجترار بحسب الفئة العمرية أو السياق المرضي المصاحب، كالتالي:
- اضطراب الاجترار عند الرضع: يبدأ غالبًا بين عمر 3 إلى 12 شهرًا.
- اضطراب الاجترار عند الأطفال: يحدث في سياق نمو الطفل، ويظهر بشكل متكرر بعد الأكل.
- اضطراب الاجترار عند البالغين: أقل شيوعًا، لكنه قد يترافق مع القلق أو الوسواس القهري.
- اجترار غذائي مصاحب للتوحد أو الإعاقة الذهنية: حيث يظهر السلوك كجزء من نمط سلوكي تكراري.
- اجترار غذائي نفسي المنشأ: يحدث نتيجة تعرض لضغط نفسي أو تجربة صادمة.
- اجترار غذائي مزمن: يستمر لأكثر من 6 أشهر مع آثار صحية واضحة.
مقال ذو صلة: اضطراب الأكل العصبي: مفهومه، أسبابه وطرق علاجه
طرق تشخيص اضطراب الأكل الاجتراري
يعتمد تشخيص اضطراب الأكل الاجتراري على التقييم السريري المباشر من قبل طبيب نفسي أو اختصاصي تغذية نفسي أو طبيب أطفال، مع استبعاد أي أسباب طبية أو عضوية قد تفسر الحالة، مثل مشاكل المريء أو المعدة أو التهابات الجهاز الهضمي.
وفقًا لمعايير الدليل التشخيصي والإحصائي الخامس DSM-5، يُشخّص اضطراب الاجترار إذا:
- حدث الاجترار بشكل متكرر لمدة لا تقل عن شهر.
- لا يكون نتيجة لحالة طبية أو مشكلة هضمية.
- لا يحدث بشكل حصري أثناء اضطرابات أكل أخرى، مثل فقدان الشهية أو الشره المرضي.
- يؤدي إلى تأثير نفسي أو جسدي ملحوظ (مثل فقدان الوزن، مشاكل اجتماعية، ضعف تغذية).
في الحالات التي يظهر فيها الاضطراب لدى الأطفال أو الأفراد ذوي الإعاقة، يتم التشخيص من خلال مراقبة السلوك وطرح أسئلة على أولياء الأمور أو المرافقين.
طرق علاج اضطراب الأكل الاجتراري
يعتمد علاج اضطراب الاجترار [3] على شدة الحالة، وعمر المصاب، ووجود اضطرابات مصاحبة. تشمل طرق العلاج الفعالة:
- العلاج السلوكي المعرفي (CBT): لتعديل السلوكيات المرتبطة بالاجترار، خاصة لدى البالغين.
- تدريب الوعي الجسدي والتنفس (Biofeedback): لمساعدة المريض على التحكم في العضلات المرتبطة بالاجترار.
- التدريب على الاستجابة البديلة: مثل تعليم الطفل أنشطة معينة بعد الأكل بدلًا من الاجترار.
- العلاج الأسري: لتوفير الدعم والتوجيه للأهل في التعامل مع الطفل.
- العلاج بالأدوية: مثل مضادات القلق أو مضادات الاكتئاب، في حال وجود اضطرابات نفسية مصاحبة.
- المتابعة مع اختصاصي تغذية: لعلاج أو الوقاية من سوء التغذية الناتج عن السلوك.
- التثقيف النفسي: لفهم طبيعة الاضطراب وتقليل وصمة العار المرتبطة به.
- العلاج الجماعي: قد يكون مفيدًا للبالغين لمشاركة التجربة مع آخرين.
طرق الوقاية من اضطراب الأكل الاجتراري
لا توجد طريقة مضمونة للوقاية الكاملة من اضطراب الاجترار، ولكن يمكن اتخاذ خطوات فعالة لتقليل احتمالية ظهوره، خاصة لدى الأطفال. من أهم وسائل الوقاية، توفير بيئة آمنة وداعمة نفسيًا للطفل منذ الصغر، والانتباه إلى أنماط الأكل والسلوكيات المرتبطة بالطعام. يُفضّل ألا يُستخدم الطعام كوسيلة للعقاب أو المكافأة، وأن يتم تعليم الأطفال التعامل الصحي مع التوتر والانفعالات.
في حال ظهور سلوكيات غير طبيعية تتعلق بالأكل، مثل إعادة مضغ الطعام أو التقيؤ المتكرر دون سبب طبي واضح، يجب طلب التقييم من مختص نفسي أو طبيب أطفال فورًا. كذلك، من المهم مراقبة الأطفال ذوي الإعاقات الذهنية أو اضطرابات النمو، إذ إنهم أكثر عرضة لتطوير هذا الاضطراب.
في الختام
اضطراب الأكل الاجتراري قد يبدو سلوكًا بسيطًا في بداياته، لكنه في الواقع قد يسبب مشكلات صحية ونفسية عميقة إذا لم يتم التعامل معه بجدية.
الوعي بهذا الاضطراب نادر بين الأهالي وحتى بعض العاملين في المجال الصحي، لذا فإن نشر المعرفة حوله خطوة أساسية نحو التدخل المبكر والعلاج الفعال.
سواء كنت والدًا تلاحظ سلوكًا غريبًا لدى طفلك بعد الأكل، أو شخصًا يعاني من هذا الاضطراب، فإن طلب المساعدة والتقييم المهني يمثل الخطوة الأولى نحو التحسن. العلاج المبكر والدعم النفسي والتربوي يمكن أن يحدّ من مضاعفات اضطراب الأكل الاجتراري، ويعيد للفرد جودة حياته النفسية والجسدية.
لا تتردد في التواصل مع الأخصائيين النفسيين أو الأطباء المتخصصين في اضطرابات الأكل، فهم يمتلكون الخبرة اللازمة لتقديم التشخيص الصحيح ووضع خطة علاجية ملائمة تناسب حالتك أو حالة أحبائك. تذكر أن الصحة النفسية جزء لا يتجزأ من صحتك العامة، والاعتناء بها هو استثمار حقيقي في مستقبلك وحياتك اليومية.
لا يوجد تعليقات .