في عالم الطب النفسي، تظهر اضطرابات عديدة تتداخل فيها الجوانب النفسية والجسدية. ومن بين هذه الاضطرابات، يبرز “اضطراب الأعراض الجسدية” كواحد من أكثر الحالات إثارة للاهتمام والبحث. قد يعاني الأفراد المصابون بهذا الاضطراب من أعراض جسدية مزعجة ومستمرة، دون وجود مسبب عضوي واضح يفسر هذه الأعراض. وقد يشعر الشخص بألم حقيقي ومعاناة شديدة، رغم أن الفحوصات الطبية لا تظهر سببًا عضويًا ملموسًا.
هذا النوع من الاضطرابات يشكّل تحديًا للطبيب والمريض معًا، لأن الأعراض الجسدية تكون حقيقية ومؤلمة، لكنها تنبع من عوامل نفسية غالبًا. سنستعرض في هذه المقالة كل ما يحتاج الباحث إلى معرفته عن اضطراب الأعراض الجسدية: من مفهومه وأعراضه، إلى أسبابه وأنواعه، وطرق التشخيص والعلاج والوقاية، بلغة طبية مبسطة وأسلوب علمي.
مفهوم اضطراب الأعراض الجسدية
اضطراب الأعراض الجسدية [1] هو حالة نفسية يتميز فيها الشخص بتركيز مفرط على الأعراض الجسدية مثل الألم أو التعب أو غيرها من الشكاوى البدنية التي تسبب له معاناة واضحة أو خللًا في الأداء اليومي.
ورغم أن هذه الأعراض قد تكون ناتجة عن حالة طبية فعلية أو لا تكون مرتبطة بأي سبب عضوي، فإن المشكلة الأساسية في هذا الاضطراب لا تكمن في وجود الأعراض نفسها، بل في القلق المفرط والمبالغ فيه حول هذه الأعراض. يشعر الشخص بأنه يعاني من مرض خطير، ويستمر في طلب الفحوصات والاستشارات الطبية، رغم تطمينات الأطباء.
الاضطراب ليس تمثيلًا أو افتعالًا متعمدًا للأعراض، بل هو انعكاس حقيقي لمعاناة نفسية تترجم إلى أعراض جسدية. وغالبًا ما يبدأ هذا الاضطراب في سن البلوغ أو منتصف العمر، وقد يتفاقم بسبب التوترات النفسية، الصدمات، أو أنماط التفكير السلبية.
أعراض اضطراب الأعراض الجسدية
تتعدد الأعراض المرتبطة باضطراب الأعراض الجسدية[2]، وتختلف من شخص لآخر، لكنها تشترك في كونها مزعجة، مستمرة، وغير مفسرة طبيًا في كثير من الأحيان. يشعر الشخص بآلام في مناطق مختلفة من الجسم، مثل الرأس، البطن، المفاصل، أو الصدر، وتكون هذه الآلام مزمنة ومتكررة، دون تفسير عضوي واضح. قد تظهر أعراض مثل الغثيان، الإسهال، الإمساك، أو الشعور المستمر بالتعب العام، ما يجعل الشخص يظن أنه مصاب بمرض عضوي خطير.
يركز المريض بشكل كبير على هذه الأعراض، وقد يقضي ساعات في مراقبة جسده، أو البحث عبر الإنترنت عن تفسير لما يشعر به. كما يسيطر عليه القلق الشديد بشأن حالته الصحية، وقد يكون مقتنعًا بأنه مصاب بمرض خطير أو مهدد للحياة.
ورغم إجراء الفحوصات الطبية المتكررة، فإنه لا يطمئن، بل يستمر في التنقل بين الأطباء، والبحث عن تفسيرات وأدوية. ويؤثر هذا القلق والسلوك المتكرر في حياته اليومية، وعلاقاته، وأدائه المهني والاجتماعي. في كثير من الأحيان، لا يستجيب للأدوية التقليدية، لأن الجذر النفسي للمشكلة لم يتم التعامل معه.
أسباب اضطراب الأعراض الجسدية
تتعدد الأسباب المحتملة لاضطراب الأعراض الجسدية، وتحدث غالبًا نتيجة تفاعل معقد بين العوامل النفسية، البيولوجية، والاجتماعية، وتشمل:
- الاستعداد الوراثي: وجود تاريخ عائلي لاضطرابات القلق أو اضطرابات جسدية مماثلة.
- تجارب الطفولة: مثل الإهمال العاطفي، أو التعرض للإيذاء الجسدي أو النفسي.
- الإجهاد المزمن: التعرض المستمر لضغوط الحياة، سواء كانت مادية أو عاطفية أو مهنية.
- الإصابة بمرض خطير سابق: قد تؤدي تجربة مرض سابق إلى قلق مفرط على الصحة.
- الميل للتفكير الكارثي: بعض الأشخاص يميلون لتضخيم وتفسير أي عرض بسيط على أنه علامة لمرض خطير.
- صعوبة التعبير عن المشاعر: البعض يجد صعوبة في التعبير عن مشاعرهم لفظيًا، فتنفجر على شكل أعراض جسدية.
- الدعم المجتمعي السلبي: في بعض الحالات، قد يعزز المحيطون بالفرد هذا السلوك من خلال الاهتمام الزائد عند المرض.
أنواع اضطراب الأعراض الجسدية
يصنّف اضطراب الأعراض الجسدية إلى عدة أنماط أو أنواع بحسب طبيعة وشدة الأعراض، ومن هذه الأنواع:
- اضطراب أعراض جسدية مع ألم بارز: حيث يكون العرض الأساسي ألمًا مزمنًا في أحد أجزاء الجسم.
- اضطراب أعراض متعددة: يشكو المريض من مجموعة أعراض متنوعة (ألم، مشاكل هضمية، تنفسية، عصبية) دون تفسير طبي.
- اضطراب مع قلق صحي مفرط: يرتبط القلق الصحي الزائد بشكل رئيسي بالأعراض، رغم أنها طفيفة أو عابرة.
- اضطراب الأعراض الجسدية مع أعراض طبية حقيقية: يكون هناك مرض عضوي فعلي، لكن الاستجابة النفسية له مفرطة وغير متناسبة مع شدة المرض.
- النوع المزمن: عندما تستمر الأعراض لمدة تزيد عن 6 أشهر، وتؤثر بشكل واضح على نمط حياة الفرد.
طرق تشخيص اضطراب الأعراض الجسدية
يتطلب تشخيص اضطراب الأعراض الجسدية تقييمًا شاملاً من قبل طبيب نفسي أو اختصاصي صحة نفسية، وقد يتعاون مع أطباء آخرين في التخصصات الجسدية لاستبعاد وجود أسباب عضوية.
يبدأ التشخيص بجمع تاريخ طبي ونفسي دقيق، يتضمن الأعراض، مدة استمرارها، الأثر الذي تتركه على حياة الفرد، والقلق المصاحب لها. يجب التأكد من أن الأعراض ليست ناجمة عن اضطراب عضوي آخر، أو عن اضطراب نفسي مثل الاكتئاب أو القلق فقط.
يعتمد الطبيب في التشخيص على دليل التشخيص الإحصائي للاضطرابات النفسية DSM-5، الذي يضع معايير واضحة، منها: وجود عرض جسدي أو أكثر يسبب انزعاجًا كبيرًا، التركيز المفرط على الأعراض أو القلق بشأنها، واستمرارية هذه الحالة لأكثر من 6 أشهر.
من المهم في هذه المرحلة التفريق بين اضطراب الأعراض الجسدية، وبين اضطرابات مشابهة مثل اضطراب القلق الصحي (الهيبوكوندريا سابقًا)، أو اضطرابات التحوّل الجسدي.
طرق علاج اضطراب الأعراض الجسدية
تعتمد خطة العلاج على مزيج من الأساليب النفسية والدوائية والداعمة[3]، وتشمل:
- العلاج المعرفي السلوكي (CBT): يُعد العلاج الأكثر فاعلية، ويساعد في تعديل الأفكار السلبية والمعتقدات الخاطئة حول الصحة.
- العلاج الدوائي: يمكن استخدام مضادات الاكتئاب (مثل SSRIs) في حال وجود أعراض اكتئاب أو قلق مرافق.
- العلاج الأسري: تثقيف العائلة حول الاضطراب يساعد في تحسين الدعم وتخفيف السلوكيات التعزيزية للأعراض.
- العلاج الجماعي: يوفر بيئة دعم من أشخاص يمرون بتجارب مشابهة.
- العلاج بالاسترخاء والتأمل: مثل تمارين التنفس، التأمل، اليوغا، التي تقلل التوتر والقلق.
- إدارة القلق والتوتر: تعلم مهارات التأقلم مع التوتر اليومي من خلال الجلسات الإرشادية.
- جدولة زيارات طبية منتظمة: يفضّل تحديد مواعيد متابعة دورية بدلًا من زيارات طبية متكررة عند ظهور أي عرض.
- التثقيف النفسي: شرح طبيعة الاضطراب للمريض بلغة مبسطة يساهم في تخفيف التوتر المرتبط به.
طرق الوقاية من اضطراب الأعراض الجسدية
رغم أن اضطراب الأعراض الجسدية لا يمكن الوقاية منه بشكل كامل، إلا أن هناك خطوات تقلل من احتمالية تطوره أو تفاقمه. من المهم تعزيز مهارات التعبير العاطفي عند الأطفال والمراهقين، وتشجيعهم على الحديث عن مشاعرهم بدلًا من كبتها.
كما أن التوعية النفسية المبكرة في المدارس والمجتمع تسهم في كسر وصمة المرض النفسي. العناية بالصحة النفسية من خلال التوازن بين العمل والحياة الشخصية، والنوم الكافي، وممارسة الرياضة، عوامل مهمة للحماية من الاضطرابات النفسية عمومًا.
يجب على الأطباء والممارسين الصحيين تجنّب تعزيز القلق الصحي لدى المرضى من خلال كثرة الفحوصات غير الضرورية أو إعطاء تفسيرات مقلقة. وعندما تظهر بوادر قلق صحي أو أعراض جسدية غير مبررة، فإن التدخل النفسي المبكر يساهم في منع تطور الحالة إلى اضطراب مزمن.
في الختام
اضطراب الأعراض الجسدية هو حالة نفسية حقيقية ومعقدة، تتطلب فهماً عميقاً وتعاطفًا من المحيطين، إضافة إلى علاج متخصص يجمع بين الطب النفسي والدعم الاجتماعي. من المهم أن نُدرك أن الألم الذي يشعر به المريض ليس “في رأسه فقط”، بل هو تجربة واقعية ناتجة عن تداخل العوامل النفسية والجسدية.
الوعي بهذا الاضطراب والتعامل معه بجدية، دون إصدار أحكام مسبقة، يمثل خطوة أساسية نحو تحسين جودة حياة المصابين به، وتخفيف العبء عنهم وعن النظام الصحي. ومع تطور العلم النفسي والوعي المجتمعي، أصبحت فرص الشفاء وإدارة الأعراض أفضل بكثير من ذي قبل.
لا يوجد تعليقات .