شهد العالم خلال العقدين الأخيرين تطورًا تكنولوجيًا متسارعًا جعل الشاشات جزءًا أساسيًا من حياة الإنسان اليومية، بدءًا من الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية وصولًا إلى الحواسيب والتلفاز والألعاب الإلكترونية. وعلى الرغم من أن هذه التقنيات أسهمت في تحسين فرص التعلم والترفيه والتواصل، إلا أن تأثيرها على الأطفال أصبح موضوعًا مقلقًا لدى الأخصائيين النفسيين والأطباء التربويين وآباء الأطفال على حد سواء.
فقد أدى الاستخدام المفرط للشاشات إلى ظهور نمط سلوكي جديد يُشار إليه مجازًا بـ”إدمان الشاشات”، وهو مصطلح يصف التعلق المفرط بالأجهزة الرقمية بشكل يؤثر على الصحة النفسية والجسدية والسلوكية للطفل.
يأتي هذا القلق في ظل ازدياد الوقت الذي يقضيه الأطفال أمام الشاشات، حيث أصبحت العديد من الأنشطة اليومية—كاللعب والتعلم وحتى تناول الطعام—مرتبطة بالشاشات بصورة مباشرة أو غير مباشرة. ومع توسع المحتوى الرقمي، وسهولة الوصول إليه، وتطور الألعاب الإلكترونية لتصبح أكثر تحفيزًا للدماغ، بات من الصعب على الطفل تنظيم استخدامه لهذه الأجهزة دون تدخل توجيهي من الأسرة. من هذا المنطلق، تتناول هذه المقالة مفهوم إدمان الشاشات عند الأطفال، وأعراضه، وأسبابه، وأنواعه، وكيفية تشخيصه، إضافة إلى طرق العلاج والوقاية منه.
مفهوم إدمان الشاشات عند الأطفال
يمكن تعريف إدمان الشاشات عند الأطفال[1] بأنه حالة من الاستخدام المفرط وغير المنضبط للأجهزة الرقمية، بحيث يفقد الطفل القدرة على تنظيم الوقت الذي يقضيه أمام الشاشات، ويصبح هذا الاستخدام مؤثرًا بشكل سلبي على نمط حياته اليومي، ووظائفه النفسية والاجتماعية، وقدرته على التعلم، وعلاقاته الأسرية. ورغم أن المصطلح ليس تشخيصًا طبيًا مستقلًا في الدليل التشخيصي والإحصائي للأمراض النفسية، إلا أنه يُعتبر نمطًا سلوكيًا متقاطعًا مع عدة اضطرابات مثل الإدمان السلوكي واضطرابات التحكم في الاندفاع والقلق الاجتماعي.
يتميّز هذا النوع من الإدمان بأن الطفل يجد في الشاشات وسيلة للحصول على التحفيز الفوري، سواء من خلال الألعاب الإلكترونية، أو مقاطع الفيديو، أو التواصل عبر التطبيقات. ومع الوقت، يتعود الدماغ على مستويات عالية من التحفيز، مما يقلل قدرة الطفل على الاستمتاع بالأنشطة الطبيعية في حياته، ويخلق حاجزًا بينه وبين التفاعل الاجتماعي الحقيقي. ويُنظر إلى إدمان الشاشات كحالة تتطور تدريجيًا، تبدأ بالتعلق البسيط وتنتهي بسلوك قهري لا يستطيع الطفل مقاومته، حتى وإن كانت النتائج سلبية على نومه أو دراسته أو صحته الجسدية.
أعراض إدمان الشاشات عند الأطفال
تظهر أعراض إدمان الشاشات عند الأطفال[2] بشكل تدريجي، وقد لا ينتبه إليها الوالدان في بداياتها لأنها قد تبدو سلوكيات طبيعية أو شائعة بين الأطفال في عصر التكنولوجيا. لكن مع الوقت، يصبح النمط أكثر وضوحًا، إذ يبدأ الطفل في إظهار علامات التهيّج والانزعاج عند محاولة الحد من استخدامه للشاشات، أو قد يفقد الاهتمام بالأنشطة الأخرى التي كان يستمتع بها سابقًا. ومن أبرز الأعراض الملحوظة وجود رغبة ملحّة للطفل في العودة إلى الجهاز بمجرد توقفه عن استخدامه، مع فقدانه القدرة على ضبط الوقت الذي يقضيه أمام الشاشة، حتى عندما يكون متعبًا أو عندما يُطلب منه أداء واجباته المدرسية.
كما تشمل الأعراض تغيّرات في السلوك الاجتماعي، مثل الانعزال عن العائلة، وتفضيل اللعب الافتراضي على اللعب الواقعي مع الأصدقاء، وتراجع القدرة على التواصل اللفظي أو استخدام الخيال والإبداع. وقد يعاني الأطفال من مشاكل في النوم، كالأرق أو صعوبة الاستغراق في النوم نتيجة التعرض للضوء الأزرق المنبعث من الشاشات.
وتظهر أيضًا علامات تشتت الانتباه وضعف التركيز، مما قد يؤدي إلى تراجع المستوى الدراسي. وفي بعض الحالات، يظهر على الطفل القلق أو التوتر عند انقطاع الإنترنت أو عدم توفر الجهاز، وقد يلجأ إلى نوبات غضب حادة إذا حاول أحد الحد من استخدامه للشاشات. وتعد هذه الأعراض مؤشرًا على اختلال العلاقة بين الطفل والأجهزة الرقمية، ما يستدعي التدخل قبل أن تتفاقم المشكلات النفسية والسلوكية.
أسباب إدمان الشاشات عند الأطفال
- التحفيز العصبي المستمر: توفر الشاشات محتوى مثيرًا وسريع الإيقاع يؤثر على دوائر المكافأة في الدماغ ويزيد إفراز الدوبامين.
- ضعف الرقابة الأبوية: غياب تنظيم وقت الشاشة أو عدم وضع قوانين واضحة لاستخدام الأجهزة.
- البحث عن الهروب: لجوء الطفل للشاشات للهروب من القلق أو التوتر أو الملل.
- سهولة الوصول للمحتوى: وفرة الأجهزة في المنزل وتعدد التطبيقات الجاذبة.
- النماذج الأسرية: استخدام الوالدين للشاشات بشكل مفرط فيكون الطفل مقلدًا لهم.
- غياب البدائل: نقص الأنشطة البديلة مثل الرياضة أو الألعاب الواقعية أو التفاعل الاجتماعي.
- ضغط المجتمع الرقمي: رغبة الطفل في متابعة أصدقائه أو تقليدهم في الألعاب الإلكترونية.
- الخصائص الشخصية: وجود اضطرابات سلوكية مثل فرط الحركة أو القلق قد يزيد قابلية الطفل للإدمان على الشاشات.
أنواع إدمان الشاشات
- إدمان الألعاب الإلكترونية: التعلق المفرط بالألعاب عبر الإنترنت أو الألعاب التنافسية.
- إدمان الفيديوهات: قضاء ساعات طويلة في مشاهدة مقاطع مرئية مثل يوتيوب أو الرسوم المتحركة.
- إدمان وسائل التواصل الاجتماعي: تزايد استخدام الأطفال لتطبيقات المراسلة أو مشاركة المحتوى.
- إدمان الأجهزة اللوحية والهواتف: الاعتماد على الهاتف أو الجهاز اللوحي لأغراض التسلية طوال اليوم.
- إدمان التلفاز: مشاهدة التلفاز بشكل مستمر دون القدرة على التوقف.
- إدمان التعلم الإلكتروني الترفيهي: استخدام التطبيقات التعليمية بشكل مفرط لأغراض غير تعليمية.
طرق تشخيص إدمان الشاشات عند الأطفال
يتم تشخيص إدمان الشاشات لدى الأطفال عبر تقييم سلوكي شامل يعتمد على ملاحظة أنماط الاستخدام ومدى تأثيرها على حياة الطفل اليومية. يبدأ التشخيص عادة بجمع معلومات من الوالدين حول عدد ساعات استخدام الشاشات ونوعية المحتوى الذي يتعرض له الطفل، بالإضافة إلى التغيرات التي ظهرت على سلوكه خلال الفترة الأخيرة. يعتمد الأخصائي النفسي أو الطبيب السلوكي على مجموعة من المعايير، مثل فقدان القدرة على التحكم في وقت الشاشة، واستمرار الاستخدام رغم العواقب السلبية، وظهور علامات انسحابية عند منع الطفل من استخدام الجهاز، وانخفاض أداءه المدرسي أو تغير علاقاته الاجتماعية.
قد يتضمّن التشخيص تقييمًا نفسيًا إضافيًا إذا كان هناك احتمال لوجود اضطرابات مرافقة مثل اضطراب فرط الحركة وتشتّت الانتباه، أو القلق، أو الاكتئاب، إذ إن وجود مثل هذه الاضطرابات قد يزيد من احتمالية تعلق الطفل الشديد بالشاشات كوسيلة للتكيف. ولا يعتمد التشخيص على اختبار واحد محدد، بل على مجموعة من المؤشرات السلوكية التي تدعم وجود الإدمان. كما قد يستخدم الأخصائيون استبيانات معيارية تقيس مستوى الاعتماد على الأجهزة الرقمية. وفي نهاية التقييم، يضع الفريق المختص خطة واضحة للتدخل وفق شدة الحالة واحتياجات الطفل.
طرق علاج إدمان الشاشات عند الأطفال
فيما يلي أهم طرق علاج إدمان الشاشات عند الأطفال[3]:
- تقليل وقت الشاشة تدريجيًا: وضع خطة لتقليل الساعات بشكل متدرّج وليس مفاجئًا.
- تحديد أوقات استخدام واضحة: مثل تحديد ساعة واحدة بعد الانتهاء من الواجبات المدرسية.
- تعزيز الأنشطة البديلة: كالرياضة، القراءة، اللعب الحر، والهوايات الإبداعية.
- العلاج السلوكي المعرفي (CBT): لمساعدة الطفل على ضبط الانفعالات وتنظيم السلوك.
- العلاج الأسري: توعية الوالدين بتطوير عادات صحية داخل المنزل.
- استخدام تطبيقات ضبط الوقت: أدوات رقمية تتحكم بوقت استخدام الجهاز.
- تعزيز التواصل الأسري: تخصيص وقت للحوار والأنشطة الجماعية.
- متابعة طبية إذا لزم الأمر: خاصة عند ظهور أعراض القلق أو الاكتئاب أو اضطرابات النوم.
طرق الوقاية من إدمان الشاشات عند الأطفال
تبدأ الوقاية من إدمان الشاشات عبر وضع قواعد واضحة للاستخدام منذ السنوات الأولى من عمر الطفل، إذ تساعد التربية المبكرة على بناء علاقة متوازنة مع الأجهزة الرقمية. ويُنصح الآباء بأن يكونوا نموذجًا جيدًا في تنظيم استخدامهم للشاشات، لأن الأطفال عادة يقلدون السلوك الذي يرونه أمامهم. كما يُفضَّل توفير أنشطة بديلة ممتعة للطفل، سواء كانت رياضية أو فنية أو اجتماعية، لتعزيز اهتماماته في مجالات أخرى بعيدًا عن الأجهزة الرقمية. ويساعد تحديد أوقات معينة لاستخدام الشاشات—مثل دقائق محدودة يوميًا أو استخدام الأجهزة بعد استكمال الواجبات—على تعزيز الانضباط الذاتي عند الطفل. أما النوم، فيجب حمايته من تأثير الضوء الأزرق عبر منع استخدام الشاشات قبل النوم بساعة على الأقل.
ومن المهم أن يتحاور الوالدان مع أطفالهم حول مخاطر الاستخدام المفرط للشاشات دون اللجوء إلى أسلوب التهديد، بل عبر الشرح البسيط لأثر الشاشات على الدماغ والصحة. كما يُنصح بالتواجد المشترك أثناء استخدام الطفل للشاشات، خاصة في السنوات الأولى، لمراقبة المحتوى والتأكد من أنه ملائم لعمره. إن توفير بيئة منزلية متوازنة بين الأنشطة الواقعية والرقمية يساعد في بناء علاقة صحية مع التكنولوجيا ويقلل من فرص تطور الإدمان لدى الأطفال.
في الختام
يمثل إدمان الشاشات عند الأطفال تحديًا تربويًا وصحيًا متزايدًا، خاصة في ظل الانتشار الواسع للتكنولوجيا وتطورها المستمر. ومع أن الشاشات أصبحت جزءًا من الحياة اليومية، إلا أن إدارتها بشكل سليم يعتبر ضرورة لحماية الأطفال من التأثيرات السلبية التي قد تطال صحتهم النفسية والجسدية والاجتماعية. إن فهم مفهوم الإدمان ووعي الأهل بالأعراض والأسباب يشكلان خطوة أساسية في مواجهة المشكلة، بينما يشكل العلاج والوقاية مزيجًا من التوجيه السلوكي والتنظيم الأسري والوعي الصحي.
ومن خلال توفير بيئة غنية بالأنشطة البديلة، وتحديد قواعد واضحة لاستخدام الشاشات، وتعزيز التواصل الأسري، يمكن للأسرة أن تساعد أطفالها على بناء علاقة متوازنة مع التكنولوجيا. ويظل الهدف الأسمى هو ضمان نمو صحي للطفل في عالم رقمي سريع التغيير، بحيث يستفيد من التكنولوجيا دون أن يصبح أسيرًا لها. إن الوعي والمشاركة الفعالة من الأسرة والمربين والمتخصصين هي المفتاح لضمان أن تكون الشاشات أداة نافعة لا مصدرًا للضرر.
لا يوجد تعليقات .