في العصر الرقمي، حيث تتوفر تطبيقات القمار ومواقع المراهنات بضغطة زر، يزداد عدد الأشخاص الذين يجدون أنفسهم عالقين في دوامة إدمان القمار. ربما يبدأ الأمر بلعبة بسيطة بدافع الفضول أو التسلية، لكنه قد يتحول مع الوقت إلى سلوك قهري يسيطر على التفكير والسلوك، مسببًا خسائر فادحة ليس فقط على الصعيد المالي، بل النفسي والاجتماعي أيضًا.
إدمان القمار هو اضطراب معترف به طبيًا ونفسيًا، وهو لا يختلف من حيث آلياته وتأثيره عن إدمان المخدرات أو الكحول. في هذا المقال، نستعرض جذور هذا النوع من الإدمان، علاماته، أسبابه، آثاره، وطرق التعامل معه من منظور علم النفس الحديث.
ما هو إدمان القمار؟
يعرف “إدمان القمار” [1] بأنه حالة يفقد فيها الشخص السيطرة على حاجته للمقامرة، سواء أكانت مراهنات رياضية، ألعاب كازينو، بطاقات يانصيب، أو حتى ألعاب إلكترونية تحتوي على عناصر مقامرة. يصبح القمار محور حياة الفرد، يؤثر على قراراته، علاقاته، وصحته النفسية.
حسب تصنيف DSM-5 التابع للجمعية الأمريكية للطب النفسي، تم إدراج اضطراب القمار ضمن فئة “الاضطرابات المرتبطة بالسلوك الإدماني”، مما يضعه في ذات الإطار الطبي لإدمانات المواد.
مراحل تطور الإدمان
إدمان القمار لا يحدث فجأة، بل يمر بمراحل تبدأ غالبًا بشعور بالإثارة ثم تتطور تدريجيًا لتتحول إلى سلوك مدمر:
- مرحلة الربح المبكر: يربح الشخص في أولى تجاربه، ما يغذّي شعوره بالثقة الزائفة ويزيد تعلقه بالقمار.
- مرحلة الخسارة: يبدأ الشخص بخسارة المال، لكنه يبرر ذلك بأنها “مرحلة مؤقتة” أو “سوء حظ”.
- مرحلة اليأس: تتراكم الخسائر، ويبدأ الشخص بالاقتراض أو بيع ممتلكاته لتعويض الخسارة.
- مرحلة الانهيار: يفقد الشخص السيطرة على حياته، وقد تظهر عليه علامات الاكتئاب أو يلجأ إلى السرقة أو التفكير في الانتحار.
أسباب إدمان القمار[2]
- آليات الدماغ والمكافأة
القمار يحفّز نظام المكافأة في الدماغ، من خلال إطلاق مادة الدوبامين، وهي ناقل عصبي مسؤول عن الشعور بالمتعة والتحفيز. ومع تكرار التجربة، يصبح الدماغ “مدمنًا” على هذا التحفيز، ويطالب بالمزيد لتحقيق نفس الشعور، تمامًا كما يحدث في إدمان المخدرات.
- الوهم بالتحكم
من أخطر ما يميز القمار أنه يعطي الشخص وهمًا بالقدرة على “السيطرة” على النتائج. البعض يعتقد أن لديه “استراتيجية ناجحة” أو “حظًا خاصًا”، رغم أن أغلب ألعاب القمار تعتمد على الصدفة البحتة.
- الهروب من الواقع
يلجأ كثيرون للقمار للهروب من مشكلات الحياة، مثل الضغوط النفسية، الفشل المهني، الوحدة أو حتى الفراغ العاطفي. القمار يقدم لهم مهربًا مؤقتًا، لكنه يتحول لاحقًا إلى مشكلة أكبر.
العوامل المؤثرة في القابلية للإدمان
إدمان القمار لا يحدث بنفس الطريقة أو الحدة عند الجميع، وهناك عدة عوامل تزيد من احتمالية الإصابة به:
- العوامل النفسية: الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات مثل الاكتئاب، القلق، أو اضطراب الشخصية الحدية هم أكثر عرضة للإدمان.
- السمات الشخصية: الاندفاعية، قلة القدرة على تأجيل الإشباع، وحب المخاطرة من السمات التي ترتبط بارتفاع قابلية القمار.
- البيئة الاجتماعية: العيش في بيئة تنتشر فيها المراهنات، أو وجود أصدقاء أو أقارب يمارسون القمار، يسهم في تطبيع الفكرة.
- العوامل الجينية: تشير بعض الدراسات إلى وجود استعداد وراثي للسلوكيات الإدمانية، ما يعني أن التاريخ العائلي قد يكون مؤشراً مهمًا.
- الوصول السهل للقمار: وجود تطبيقات الهواتف الذكية ومواقع المراهنات عبر الإنترنت سهّل القمار لأي شخص وفي أي وقت، مما زاد من معدل الإدمان، خاصة بين الشباب.
علامات وأعراض إدمان القمار
إذا كنت تتساءل إن كان شخص ما يعاني من إدمان القمار، فإليك بعض العلامات الدالة[3]:
- الإنشغال المستمر بألعاب القمار والتفكير بها.
- زيادة الحاجة للعب بمبالغ أكبر للحصول على نفس مستوى الإثارة.
- عدم القدرة على التوقف رغم الرغبة في ذلك.
- الشعور بالقلق أو التوتر عند التوقف المؤقت.
- محاولة تعويض الخسائر بالمزيد من اللعب.
- الكذب بشأن مقدار الوقت أو المال المنفق على القمار.
- تدهور الأداء المهني أو الدراسي.
- مشاكل مالية متكررة قد تصل إلى الاحتيال أو السرقة.
- الانسحاب الاجتماعي وتجنب اللقاءات العائلية.
مقال ذي صلة: الإدمان: أنواعه وطرق علاجه
التأثيرات النفسية والاجتماعية
يؤثر إدمان القمار بشكل واضح على حياة الفرد النفسية والاجتماعية والمالية. نفسيًا، يرتبط القمار القهري بارتفاع معدلات الاكتئاب، القلق، والتوتر، وقد يصل الأمر إلى الوسواس أو حتى التفكير في الانتحار، خاصة عندما يشعر المدمن بالعجز والخسارة المستمرة. هذه الاضطرابات تتفاقم بمرور الوقت وتؤثر سلبًا على جودة الحياة.
اجتماعيًا، ينسحب الشخص المدمن من حياته الاجتماعية ويتجنب من حوله، خوفًا من المواجهة أو بسبب الشعور بالذنب. يتسبب القمار أيضًا في توتر العلاقات الأسرية نتيجة الأكاذيب والخسائر المتكررة، مما يؤدي إلى تدهور الثقة داخل الأسرة.
ماليًا، يؤدي الإدمان إلى تراكم الديون، فقدان المدخرات، وتدهور الوضع المالي العام. قد يضطر الشخص للاقتراض أو التصرف بممتلكاته في محاولة لتغطية خسائره، ما يضعه في دائرة مغلقة من المشاكل المالية يصعب الخروج منها.
هل يمكن التعافي من إدمان القمار؟
نعم، يمكن التعافي من إدمان القمار، لكن الأمر يتطلب إدراك المشكلة وطلب المساعدة المناسبة. العلاج ليس فقط للسيطرة على السلوك، بل لإعادة بناء الحياة من جديد.
يساعد المريض على فهم أنماط التفكير الخاطئة المرتبطة بالقمار، وتغييرها، وتعزيز مهارات المواجهة.
- برامج الدعم الجماعي
مثل برنامج “مقامرون مجهولون” (Gamblers Anonymous)، والذي يعتمد على الدعم الجماعي وتبادل الخبرات بين الأشخاص المتعافين.
- العلاج الدوائي
في بعض الحالات، يمكن وصف أدوية مضادة للاكتئاب أو مثبطات الاندفاعية لمساعدة المريض على ضبط سلوكه.
- الدعم الأسري
توفير بيئة داعمة من الأهل والأصدقاء أمر حاسم في نجاح رحلة التعافي، إلى جانب التثقيف حول طبيعة الإدمان.
- إجراءات وقائية
كإلغاء حسابات القمار، تثبيت تطبيقات الحجب، وضع حدود على البطاقات الائتمانية، أو حتى تسليم الإدارة المالية لشخص موثوق.
نصائح وقائية
- تحدث مع أطفالك ومراهقيك عن مخاطر القمار مبكرًا.
- لا تُشجع القمار على سبيل المزاح أو الهواية.
- كن قدوة في تعاملك مع المال والأنشطة الترفيهية.
- اطلب المساعدة المهنية عند ظهور أي علامات.
في الختام
إدمان القمار ليس مجرد عادة سيئة أو هواية خرجت عن السيطرة، بل هو اضطراب نفسي خطير يحتاج إلى فهم، وتعاطف، وعلاج ممنهج. الوقاية تبدأ بالوعي، والتعافي يبدأ بخطوة. إذا كنت تعرف شخصًا يعاني من هذا النوع من الإدمان، فكن له يد العون، لا حكمًا قاسيًا. وإن كنت أنت من يكافح، فتذكر أن الطريق نحو الشفاء موجود، وأنك لست وحدك.
الأسئلة الشائعة
- هل إدمان القمار سهل العلاج؟
لا، إدمان القمار يتطلب علاجًا متخصصًا لأنه اضطراب نفسي. الشخص المدمن بحاجة إلى علاج مثل العلاج السلوكي المعرفي والمجموعات الداعمة لتعلم كيفية التحكم في رغبته بالمقامرة.
- هل يمكن الشفاء تمامًا من إدمان القمار؟
نعم، يمكن الشفاء من إدمان القمار، لكن ذلك يتطلب وقتًا ودعماً متخصصًا. العلاج يشمل تغيير العادات السلبية وتعزيز الوعي بالمشكلة.
- كيف أساعد شخصًا مدمنًا على القمار؟
يمكنك مساعدته بتشجيعه على طلب المساعدة من مختص، ودعمه عاطفيًا. مهم أيضًا التحدث معه بصراحة دون إلقاء اللوم، وتوفير بيئة داعمة تشجع على التعافي.
- هل يوجد علاج دوائي لإدمان القمار؟
نعم، في بعض الحالات، يمكن استخدام أدوية تساعد في تقليل الرغبة في المقامرة، خاصة إذا كانت هناك مشاكل نفسية مثل الاكتئاب أو القلق.
لا يوجد تعليقات .